المنسيون خلف جبال الأطلس الكبير

4197 مشاهدة

الربورطاج في أرقام

المدة: 6 أيام

المسافة: 679كيلومتر

عدد الدواوير:52

القبائل: 3

مدة المشي: ما بين 7 إلى 8 ساعات مشيا على الأقدام يوميا

وزن الحقيبة الواحدة: 38 كيلوغرام

درجات الحرارة: ما بين 42 و16 درجة مئوية

التساقطات: ما بين 8 إلى 10 ميلمترات (يومان)

الارتفاع عن سطح البحر: ما بين 1989 و2563 متر

عندما قرر الطاقم أن يشد الرحال ذات فجر من 5 غشت 2019 إلى الدواوير النائية بجماعات: « أوناين »، « إيجوكاك » و »تفنوت »  كان لزاما أن نقطع الصلة بالمدينة وما تتيحه من كمليات استهلاكية وتواصلية،لننصهر في بوتقة نمط مغاير من العيش سمته المميزة التقتير وشح الموارد، ونحن في ترتيبات الاستعداد اقتنينا بعض المواد الغذائية والأدوية التي يمكن أن نحتاج إليها والقليل من الملابس والأغطية الخفيفة في حقائب رياضية يصل وزنها إلى 38 كيلوغراما، وهو وزن يتحول مع ساعات المشي الطويلة وقلة الأوكسجين إلى قطعة من العذاب، كانت البداية من منطقة سيدي وعزيز بضواحي مدينة تارودانت حيث شدة القيض وقت الظهيرة، وهي نقطة التماس بين عالمين مختلفين، أحدهما ينتمي للعصر الحالي والأخر ما زال في عداد عصر الظلمات، تابعنا السير مرورا بدواوير: أيت السايح، المداد، دويسكر إلى أن دخلنا تراب قبيلة أوناين وأمضينا ليلتنا الأولى بالمسجد في ضيافة سكان المنطقة، ثم شددنا الرحال صبيحة اليوم التالي إلى منطقة « أكنضيس » بقبيلة إيجوكاك حيث مررنا بدواوير: دالاسك، تغبارت، المغزن، تجغيجت، تزكارت، إغير، تغرويست، أيت موسى، أكرضا، أتقي، فدوار أيت أيوب الذي حللنا فيه ضيوفا على أسرةمحمادأجرور، لنُعرَج صبيحة اليوم الثالث إلى دوار أوارك الذي اضطررنا للتوقف به لمدة يوم واحد لنلتقط الأنفاس وليلتئم جرح رجلي اليمنى،توجهنا مع أولى إطلالات فجر اليوم الرابع صوب الدواوير التابعة لقبيلة تفنوت: تيزغين، أمزالكو، أسارك، تسولت، ميزكنات، أربعاء توبقال، إمليل، وصول إلى دوار إمسوزارت الذي ارتحنا فيه يوما واحد، لنشد رحال العودة في اليوم السادس عبر دواوير: ألمكان، وونزورت، أكادير، تانميكر، تديلي، أيت لكير، أيتمراخ، تمسطنتأكويم وصولا إلى مدينة مراكش نقطة انطلاقتنا الأولى.

عندما يسدل الليل خيوطه كنا ننصب خيمتينا بالقرب من إحدى المنابع المائية ونجمع الحطب ونُعدُ موقدا من الأحجار نستخدمه للطهو والتدفئة، فتتطلع إلينا أعين السكان بفضول وسرعان ما كانوا يأتون إلينا لتقديم يد العون أو تزويدنا ب »تنورت » (خبز محلي) ويتبادلون معنا أطراف الحديث بنوع من التركيز الشديد لمعرفة أحوال المدينة ومستجداتها، وللحصول على بعض الضروريات كنا نلجأ إلى النظام العُرفي للمقايضة الذي يتعامل به السكان المحليون، فنتزود في غالب الأحيان بالخبز ونعوضهم بدلا عنه بقطع من الحلوى والمصبرات، أما النقود فنادرا ما نحتاج إليها لأن العملة المتداولة هي المواد الغذائية والتعامل بها أنجع من القطع النقدية.

أثناء تنقلنا بين هذه الربوع المنسية كنا نهتدي إلى مجاري الوديان والمنابع المائية للإغتسال وتنظيف الملابس ونشرها على الصخور أو أغصان الأشجار إلى أن تجف، وهو ما كان يثير حفيظة فتيات ونساء القرية، ذلك أن وظائف تنظيف وغسل الثياب هي من اختصاصهن وهي مثار استهجان عندما يقوم بها أحد الرجال…في هذا الربورتاج الاستقصائي نتعرف على نمط عيش سكان آلفوا العزلة وتعايشوا معها، فما هي أمالاهم وآلامهم؟

وجع الانتماء للجبل

(ما أجمل شجرة الدفلة، لولا مرارتها) مثل أمازيغي

وسط الامتداد الواسع لسلاسل جبلية مترامية تتراءى أطياف دواوير منسية ارتضى سكانها نمط حياة قاسية، تتوارى خلفها إكراهات معيشية تحيل نمط الحياة إلى تحديات يومية، تحديات تغزل المعاناة غزلا وتنسج منها قصة ارتباط أزلي بمجال مقفر وقاس.

تضطر بعض الأسر في حالة العوز والفقر المدقع إلى التضحية مؤقتا بأحد أفرادهاللهجرةلكي يعمل بإحدى المراكز الحضرية القريبة لسد رمق الأفواه المطالبة بالرغيف، ثم العودة في أقرب فرصة ممكنة لمعانقة تضاريس دواويرهم الوعرة، لا يجدون لأنفسهم انتماء خارج هذه الجبال الممتدة، « حسن إدعلي » خمسيني ورب أسرة من خمسة أفراد يكسب قوت يومه من رعي الماعز بين الجبال، ويشتغل أجيرا بين الفينة والأخرى لمن يطلب خدمات تتطلب مجهوده البدني، صرح « حسن » ان زياراته للمدن معدودة على رؤوس الأصابع وتقتصر في أغلب الأحيان على زيارة السوق بمدينة تارودانت، فالمدينة مرتبطة في ذهنه بالإنحلال الأخلاقي والسرقة وأغلب ساكنيها أناس قساة وماكرون، لذلك فالمرات القليلة التي يقصد فيها مدينة تارودانت يتخذ كل احتياطاته لكي لا يقع ضحية غش أو سرقة، أما الجبال فرغم قساوة مناخها ووعورة تضاريسها إلا أنها تشكل ل »حسن » حصن أمن وأمان وتوفر له ضرورياته المعيشية ولا حاجة له للمدينة إلا للضرورة القصوى التي تستدعي الحصول على بعض الأدوية، ارتباط حسن بمجاله الجبلي لا يقل عن ولع مجموعة من الفتية ب »دوار أوارك » الذين يعتبرونه جنة الله في الأرض، رغم أن منسوب جريان الواد الذي يعبر المنطقة قد تراجع في السنوات الأخيرة، فولاؤهم للجماعة وللقبيلة ولاء مطلق ولا يفكرون يوما بالعيش في مكان أخر،

وبدواوير جماعة أوناين التي نضبت عيونها وجفت آبارها ما زال أغلب سكانها متشبثون بالعيش بها، ويُمنُون النفس بأن تعود المنطقة إلى سابق عهدها لنسيان الفقر والفاقة، في انتظار ذلك اليوم يستمر الأجداد والآباء في سرد أمجاد منطقتهم للأبناء والأحفاد لتقوية وجع الانتماء للجبل.

العطش يضرب دواويرالأطلس

(متعبة أيتها البغلة وقد وصلت المرتفع..فلا الكلام يجدي فيك ولا الهراوة) مثل أمازيغي

لطالما شكلت الجبال خزانا كبيرا للمياه، غير أن منطقة أوناين ضواحي مدينة تارودانت تشدُ على هذه القاعدة دون غيرها من المناطق الجبلية، فعلى مد البصر ترتسم خيوط السراب،وتزيد من كثافتها درجة حرارة تصل إلى 38 درجة مئوية، كنا نتوقع أن يكون الجو باردا فإذا بنا أمام قيض شديد، وعلى طول الطريق كانت تظهر بين الفينة والأخرى بقايا سواقي تشير معالمها غير الواضحة أن الماء لم يجري بها منذ مدة طويلة، بتوغلنا أكثر بمنطقة أوناين تتبدى مظاهر الجفاف بشكل واضح، أشجار ضامرة إلا من بعض الوريقات،وأراضي جرداء يسود فيها اللون الترابي على غيره من الألوان.

يروي السكان المحليون أن الدواوير التابعة لجماعة أوناين كانت حتى أواسط الثمانينات منطقة غنًاء وافرة الظلال والثمار، تتوزع بها أعداد وفيرة من المنابع والعيون المائية،ويتندَرون فيما بينهم بالقول أنه « تكفي إزالة صخرة ما لينفجر ينبوع مائي من تحتها.. » باستثناء فصل الشتاء بردائه الأبيض فإن المنطقة كانت تتدثر بالأخضر طيلة ما تبقى من السنة، غير أنه مع توالي سنوات الجفاف في أواسط التسعينات من القرن الماضي نضبت المنابع وجفت الآبار فأضحى سكان العديد من الدواوير مُجبرين على قطع مسافات طويلة من أجل التزود بالماء، ونتيجة ذلك تخلًى أغلب الفلاحين على أنشطتهم الزراعية والرعوية والتحقت فئة الشباب بالمدن القريبة لتأمين حاجيات أسرهم، لاسيما بعد أن فشلت محاولات حفر آبار على عمق 130 متر دون أن يتم التزود بالماء الكافي، فأغلبها يجف بعد ساعتين على أكثر تقدير من الاستغلال اليومي.

أرخى الليل خيوطه الأولى فاضطررنا للمبيت بدوارأوناينوقبل أن ننصب خيمتينا أخبرنا السكان المحليون أن الحشرات السامة من العقارب والثعابين تنتشر بشكل كبير بالليل، وقاموا بدعوتنا للمبيت بمسجد الدوار، وصبيحة اليوم التالي لم نجد قطرة ماء بصنابير قاعة الوضوء، طرقنا أبواب المنازل المجاورة، واعتذر لنا ساكنوها بأنهم هو الأخرون من دون ماء وسينتظرون حتى المساء إلى أن يتم تشغيل محرك ضخ الماء في صهريج التخزين لتزويد مجموع ساكنة الدوار، غادرنا دوارأوناينبدون قطرة ماء وتركنا خلفنا أسرا تئن تحت وطأة العطش.

دواوير معزولة خارج زمن التطور?

(لا يعرف قساوة برد الشتاء إلا ذاك الذي لا قميص له) مثل أمازيغي

طيلة مسارنا الاستطلاعي كنا نجد أنفسنا غير ما مرة في عزلة شبه تامة بدون طرق معبدة، أو شبكة اتصالات هاتفية، وحده الفراغ والامتداد اللامتناهي لكثل صخرية متشابهة يؤثث المجال، فكنا ننحرف عن الطريق مرات عديدة، ونستمر في التقدم لبضع ساعات إلى أن نجد راعي أغنام يرشدنا إلى الوجهة المطلوبة، وتزداد صعوبة هذه المسالك عندما تختفي المنابع المائية ونضطر مُكرهين على مجابهة العطش لساعات إضافية إلى أن نهتدي إلى أقرب تجمع سكاني.

في حديثنا مع بعض السكان أسروا أنهم ألفوا العزلة التي يعيشونها، فحتى الاحصاء لم يتم إحصاؤهم، ومن النادر جدا أن يزورهم مسؤول ما خارج فترة الانتخابات، كثيرا ما وعدهم مرشحون بشق الطرق وتوسعتها لفك العزلة، إلا أن تلك الوعود لم تر النور قط، باستثناء بعض الدواوير المحظوظة التي بدأت تستشرف بوادر التغيير، كما هو الشأن بالنسبة لدواوير قبيلة إيجوكاك بمنطقةأكنضيس وهي:دالاسك، تغبارت، المغزن، تجغيجت، تزكارت، إغير، تغرويست، أيت موسى أكرضا، أتقي، أيت أيوب ، حيث بدأت هذه الدواوير في السنوات الأخيرة تعرف بعض أشغال التوسعة للتخفيف من الحوادث المأساوية التي كانت تعرفها، وقد عاينا بشكل مباشر بقايا شاحنة سقطت في قاع الواد في وقت سابق.

باستثناء بعض الدواوير المحظوظة التي تكون في العادة قريبة من مقر المجلس الجماعي المسير أو الأسواق الأسبوعية فالعديد من الدواوير الأخرى التي لا يمكن الوصول إليها إلا مشيا أو بواسطة الدواب تعيش في عزلة تامة خارج عقارب ساعة مغرب الألفية الثالثة، كما هو الشأن بالنسبة للدواوير المتواجدة بين دوارأوناين ومنطقة أكنضيس عبر المسار الغابوي، ودواوير قبيلة تفنوت: تيزغين، أمزالكو، أسارك، تسولت، ميزكنات، أربعاء توبقال، إمليل، إمسوزارت، ألمكان، وونزورت، أكادير، تانميكر، تديلي، أيت لكير، أيتمراخ، تمسطنتأكويم…

طرق تداوي تقليدية تُعوَض غياب المستشفيات

(مريض قديم أفضل من مُداوي جديد) مثل عربي

وصلنا منهكي القوى إلى دوار أوارك قبيل غروب الشمس،ما كدنا نصل إلى المكان الذي سننصب فيه خيمتينا حتى شعرت بأداة حادة تخترق باطن قدمي اليمنى، فتبيًن أنه مسمار حاد صدئ، قام مرافقاي بالضغط على الجرح ليلفظ السموم الكامنة فيه، وعندما حاولت المشي تعذر علي ذلك فالجرح تحول إلى ورم ينتفخ شيئا فشيئا، استفسرنا عن مستشفى أو مستوصف قريب فأخبرنا الأهالي أنه بعيد عن المنطقة ويتطلب المرور بأزيد من ستة دواوير أخرى من أجل الوصول إلىتفنوت التي يتواجد بها مستوصف يقدم الاسعافات الأولية.

تعذر علينا مواصلة المشي فلجأنا إلى الطريقة التقليدية التي يعتمدها السكان المحليون منذ غابر العصور، حيث قام عبد الكريم بتسخين السكين جيدا ثم كيه ليطرح سمومه الداخلية، فاضطررنا أن نمكث يوما أخر بدوار أوارك لكي يلتئم الجرح قليلا.

يفتقر سكان المناطق الجبلية إلى الحد الأدنى من الخدمات الصحية، وأغلب المستوصفات المتواجدة بالمراكز القريبة يقتصر دورها على تقديم الاسعافات الأولية وتوجيه المرضى صوب مستشفيات مدينتي مراكش وأكادير، وأمام الغياب شبه التام للمؤسسات الصحية يهتدي السكان إلى التداوي بالطرق التقليدية، وذلك باستخدام الأعشاب وبعض الطرق العُرفية المتوارثة عن الأجداد، وأفصح العديد من السكان أن أغلبهم لم يزر المستشفى قط وذلك لصعوبة التنقل التي تثقل كاهلهم بمصاريف إضافية، كما أن أغلبهم لا يثقون في المؤسسات الاستشفائية، فحسب رأي بعض المتدخلين نادرا ما تعالج المستشفى المرضى الذين يقصدونها، وذلك لأن الأطباء في نظرهم غير أكفاء، وتبقى طرق التداوي التقليدية هي الأنجع والأقل تكلفة، ويوجد بين السكان أفراد يطلق عليهم إسم « الحكيم » أو الحكيمة » يُعرفون بمهارتهم الفائقة ووصفاتهم التقليدية الدقيقة في علاج بعض الأمراض، غير أنه في السنوات الأخيرة ومع تناقص عدد « القابلات » – هن النساء الخبيرات في التوليد – يلجأ السكان إلى مستوصف صغير بدوار أمزالكو ويكابدون من أجل الوصول إليه الكثير من العناء، كمايقوم سكان بعض الدواوير المعزولة في فصل التساقطات الثلجية بحمل النساء الحوامل فوق الأكتاف على نعش خشبي يستخدم لحمل الأموات من أجل الوصول إلى أقرب مستوصف أو دار للولادة، وتنتج عن ذلك العديد من حالات الوفاة في صفوف النساء الحوامل ومواليدهن.

الزواج برجل من المدينة..حلم الفتاة الجبلية?

( إذا ما أحسً النحل بالاطمئنان ينسج) مثل أمازيغي

طيلة اليومين الذين مكثنا فيهما بدوارإمسوزارت، كانت تتطلع إلينا بفضول أعين فتيات قرويات في مقتبل العمر يتهامسن فيما بينهن ويبتسمن، كما كن يساعدننا في غسل الثياب والأواني ويحاولن خلق جسر للحوار والتعارف، ورغم أن سكان الدوار محافظون جدا إلا أنهم يغضُون الطرف عندما يتعلق الأمر بحوار بسيط بين إحدى فتياتهن مع عابر سبيل قادم من المدينة، لأنهم يرون في ذلك مشروع زواج قد يعود بالنفع على فتياتهم لانتشالهن من دوامة الفقر والفاقة، ويفتح في الآن ذاته لباقي أفراد الأسرة فرصة الانفتاح على المدينة.

صرًح علي أيت وحمان » شاب ذو 21 ربيعا أن الفتاة المحظوظة بأعالي جبال الأطلس هي تلك التي تنتقل للعيش بالمدينة، ولن يتأتى لها ذلك إلا بالاقتران بعريس قادم من هناك، فهذا الزواج هو فرصتهن الذهبية للانعتاق من الأعمال الشاقة التي تبدأ مع مطلع الفجر ولا تنتهي إلا بعد ساعات متأخرة من الليل، ذلك أن المرأة الجبلية تضطلع بمهام تتجاوز عادة ما يقوم به الرجل، فهي مطالبة منذ الساعات الأولى بالأشغال المنزلية بالإضافة إلى جمع الحطب وجلب الماء والكلأ للأغنام، كما تقوم بعض الفتيات بمهمة الرعي إذا تعذر على الأسرة استئجار راعي، تشتد حدة هذه المعاناة في فصل الشتاء عندما تتدثر المنطقة بالثلوج ويضطر الرجال للهجرة إلى المدن من أجل العمل، حينها تقوم النساء بوظائف مزدوجة، ولعل أصعبها عندما يتعين عليهن التوغل إلى الغابات وقطع الأخشاب ثم جلبها فوق ظهورهن إلى البيت وسط درجة حرارة تتراوح ما بين 5 و10 درجات مئوية.

بمنطقة إمسوزارت كان لنا حوار مع فاطمة، فتاة ذات الأربعة عشر ربيعا، تتابع دراستها بتفوق بإحدى المؤسسات التعليمية المجاورة، احتلت الرتبة الأولى في صفها وتُمني النفس بإتمام دراستها الثانوية، وهو ما يحتم عليها السفر إلى مدينة مراكش حيث يوجد أقرباء لها، غير أن هذا الخيار يبقى محط شك لديها، لأن والدها يرفض فكرة سفرها خوفا عليها من الانحراف، ويفضل بدلا عن ذلك تزويجها خلال السنتين القادمتين على أبعد تقدير، مشيرة في السياق ذاته أن أختها التي تكبرها بثمان سنوات تم تزويجها في مثل سنها من شاب زار المنطقة قادما من مدينة الدار البيضاء، ويتمنى والدها أن تحظى هي الأخرى بزوج من المدينة.

غير بعيد عن دوار أيت أيوب ألقينا التحية على فتيات يجمعن الحشائش وهن يترنمن بأهازيج أمازيغية محلية، رحبن بالحديث معنا، بدون مواربة وبشكل مباشر سألتنا « رقية » ذات الخامسة عشر ربيعا: هل ترغبون بالزواج؟ تفاجأنا بالسؤال وأجبت: نحن عابرو سبيل ليس إلا.

أجابت على الفور: إذا كانت نيتك صادقة، فيمكن لأحدكم أن يفاتح أسرتي في الموضوع ولن تتطلب المراسيم أكثر من يومين، بعدها أسافر مع أحدكم زوجة له على سنة الله ورسوله.

بهذه الطريقة تمت العديد من الزيجات بمنطقة أكنضيس بدون تعقيدات مالية أو طقوسية، « النية الصادقة » تكفي أفراد أسرة العروس لمباركة الزواج والدعاء لهما بالسداد، ونادرا جدا ما تحدث حالات الطلاق، ذلك أن ولاؤهن لأزواجهن ولاء شبه مطلق في كل ما يتعلق بشؤون الحياة.

في السياق ذاته ما زال زواج القاصرات شائعا في العديد من الدواوير بأعالي جبال الأطلس مع ارتفاع معدلات الهدر المدرسي لاسيما في صفوف الفتيات، فأغلبهن يغادرن حجرات الدراسة في وقت مبكر، وذلك لمجموعة من الأسباب كتلك التي تحث على الزواج المبكر للفتاة لصون عفتها وضمان التزامها بالعادات والتقاليد المتعارف عليها، فالفتاة العانس ذات الطالع السيء – بالنسبة للمعتقدات المحلية – هي تلك التي يصل سنها إلى 24 ربيعا ولم تتزوج بعد، لذلك يتعين على أسرتها أن تقوم ببدل العطايا والصدقات وفي بعض الأحيان التبرك ببعض الصلحاء لفك عقدتها وتيسير زواجها.

الفقر والمعتقدات المحلية تُجبر الأطفالعلى ترك حجرات الدراسة

(الجبل عال والركبة متعبة..ويحي تخلى عنها النخاع في حياتها) محمد مستاوي: شاعر أمازيغي

تعاني قبائل أوناين، إيجوكاكوتفنوت من ارتفاع معدلات الهدر المدرسي وتفشي معدلات الأمية بشكل كبير لاسيما في صفوف النساء، فمن خلال المعطيات التي توصلنا بها من فاعلين جمعويين شباب بمنطقة أوناينيُقدر عدد التلاميذ الموزعين على أربع مركزيات تعليمية ب1101 تلميذ، 543 في صفوف الاناث و558 في صفوف الذكور، ونسبة تمدرس الفتيات متقاربة مع الذكور، وإن كان عددهن يتجاوز الذكور كما هو الشأن بمركزية تمتركة التي وصل فيها عدد التلميذات 211 مقابل 187 من المتمدرسين الذكور.?

تتوقف المسيرة الدراسية لأغلب الأطفال في مرحلة التعليم الابتدائي، حيث يقدر مجموع التلاميذ في السنوات الثلاث لمرحلة الثانوي الإعدادي ب285 تلميذ فقط، منهم 100 في صفوف الإناث، إذ تراجع عددهن من 49 تلميذة في السنة الأولى إلى 21 في السنة الثالثة، فيما تراجع عدد الذكور من 84 إلى 41، كما يتقلص عدد الشباب المتمدرس إلى أكثر من النصف في مرحلة التعليم الثانوي التأهيلي، وعدد قليل جدا منهم من يحصل على شهادة الباكلوريا.

تعود أسباب ارتفاع الانقطاع الدراسي إلى قلة وبُعد المؤسسات التعليمية عن مقر سكن التلاميذ، بالإضافة إلى عوامل أخرى تجد مبررها في الظروف المعيشية القاسية للمنطقة وفي ترسُخ بعض المعتقدات التي تُلخَص الوظيفة الأساسية للمرأة في الإنجاب والأشغال المنزلية.

الخوف من مخاطر محدقة

(جرى الوادي فطمً على القرى) مثل عربي

لازمني إحساس الخوف طيلة مسار الرحلة على غير العادة في استطلاعاتي السابقة، وتزايد منسوبه إلى درجة الهلع عندما وجدنا أنفسنا ضائعين بالواد المتواجد بين بحيرة إفني ومنطقة أكنضيس، ومع أولى الزخات المطرية حثتنا المسير ونحن نضع أمام أعيننا السيناريو السيئ وهو أن الأمطار التي تسقط في مثل هذه الفترة من السنة تنتج عنها فيضانات عاصفية، ويبقى الحل الوحيد حينها هو العثور على أقرب مسلك يقود إلى أعلى الجبل، فعالية الجبل آمنة على سافلته في مثل هكذا حالات مفاجئة.

في الهزيع الأخير من الليل كانت الأمطار بمنطقة أمسوزارت تقطع حبل نومنا وندخل في سباق مع قطراتها لجمع الملابس لكي لا تتبلل وإحاطة الخيمتين بقطعة بلاستيك طويلة لكي لا يتسرب الماء إلى الداخل، إلا أن ذلك لم يكن يحول دون أن يتسرب الماء من الأسفل، فنهتدي إذاك إلى حفر جداول صغيرة تقود الماء بعيدا عن مكان تواجد الخيمتين، فنمكث في الداخل مستيقظين إلى أن يتوقف المطر، وندرك حينها أنه سيكون من الصعب صبيحة اليوم الموالي أن نحصل على وجبة الافطار لأن الحطب سيكون مبللا بالكامل.

كنا نعتزم صبيحة يوم السبت 11 غشت على بعد يوم واحد من عيد الأضحى أن نشد رحال العودة إلى مراكش على متن إحدى حافلات النقل المزدوج بدوارإمسوزارت، غير أن السكان أخبرونا أنها ستنطلق في الساعة الثانية صباحا وستكون محملة بالماعز والأغنام إلى زبناء بمدينة مراكش، لم يكن أمامنا خيار أخر، لأنه نفدت منا مدخراتنا الغذائية وإذا فوتنا هذه الفرصة (الذهبية) سنكون مجبرين على المكوث بالمنطقة وانتظار أن تستأنف الحافلة عملها (غير المؤكد) ما بين سبعة إلى عشرة أيام بعد عيد الأضحى.

انطلقت بنا الحافلة في الظلام الدامس عبر مسالك وعرة غير معبدة ورائحة الماعز تطغى على غيرها من الروائح، السائق يترنم على إيقاعات موسيقية أمازيغية وكأن السياقة بين هذه المنعرجات الخطيرة مجرد تمرين روتيني لا يستدعي القلق، علما أن عرض الطريق غير المعبدة لا يتجاوز المترين، وأقل هفوة ستهوي بنا إلى أسفل وادي يصل عمقه إلى أزيد من 2500 متر، تنفسنا الصعداء عندما خرجنا من طريق « أكويم » المرعب، فعرجت بنا الحافلة إلى الطريق الوطنية تشكا التي تعد أخطر الممرات الطرقية على الإطلاق بالمغرب، ففي تلك الليلة ذاتها عايننا ثلاثة حوادث سير خطيرة…وصلنا إلى مراكش وألسنتنا تلهج بحمد الله حمدا كثيرا على سلامة العودة.

(function($) { $( head ).append( ); })(jQuery);(function($) {$(function() {$(« #ad-gallery_cke_4nlp2hxe_slideShow »).on(« click », ».ad-image »,function(){var imgObj =$(this).find(« img »);var isrc=imgObj.attr(« src »);var ititle=null;var idesc=null;var iname=isrc.split( / );iname=iname[iname.length-1];var imgdescid=$(this).find(« .ad-image-description »);if(imgdescid){ititle=$(this).find(« .ad-description-title »);if(ititle)ititle=ititle.text();if(ititle!= )ititle= +ititle+ ;idesc=$(this).find(« span »);if(idesc)idesc=idesc.text();if (idesc.indexOf( IMAGE_LINK_ ) >= 0) {idesc = ;}if(idesc!= ){if(ititle!= )ititle=ititle+
;idesc= +idesc+ ;}}$.fancybox.open({href:isrc,beforeLoad:function(){this.title=ititle+idesc;},});});});})(jQuery);(function($) {$(function() {$(« #ad-gallery_cke_4nlp2hxe_slideShow »).on(« click », ».ad-image »,function(){var imgObj =$(this).find(« img »);var isrc=imgObj.attr(« src »);var ititle=null;var idesc=null;var iname=isrc.split( / );iname=iname[iname.length-1];var imgdescid=$(this).find(« .ad-image-description »);if(imgdescid){ititle=$(this).find(« .ad-description-title »);if(ititle)ititle=ititle.text();idesc=$(this).find(« span »);if(idesc)idesc=idesc.text();if(idesc!= ){var url=window.location.href.trim();if (idesc.indexOf( IMAGE_LINK_TAB: ) >= 0) { idesc = idesc.substring(15).trim(); if (url != idesc) window.open(idesc, _blank );} else if (idesc.indexOf( IMAGE_LINK_PAR: ) >= 0) { idesc = idesc.substring(15).trim(); if (url != idesc) window.open(idesc, _self );}}}});});})(jQuery);(function($) { $( head ).append( ); })(jQuery);(function($) {$(function() { var galleries = $( #ad-gallery_cke_4nlp2hxe_slideShow ).adGallery({loader_image: /views/ckeditor/plugins/slideshow/3rdParty/ad-gallery/loader.gif , width:false, height:500, start_at_index: 0, animation_speed: 500, update_window_hash: false, effect: resize , slideshow: { enable: true, autostart: true, start_label: Démarrer , stop_label: Arrêter , speed: 5000}});});})(jQuery);

لم يغادرني إحساس الخوف إلا بعد أن أدركت أننا نجونا من فاجعة طبيعية كان من الممكن أن نكون في عداد ضحاياها، ولعله كان حدسا استباقيا، فبعد أيام قليلة من عودة طاقمنا شهدت جبال الأطلس سلسلة من التساقطات الرعدية والفيضانات الجبلية لم يعرف المغرب مثيلا لها منذ ثمانينات القرن الماضي،حيث تسببت الأمطار الرعدية يوم الأربعاء24 يوليوز 2019 في وفاة أزيد من 16 شخصا تحت الأنقاض عند النقطة الكيلومترية 230 المتواجدة بين جماعتي إيجوكاك وأسني نتيجة انجرافات صخرية، كما عرفت بلدة إمي نتيارت بدائرة إغرم نواحي مدينة تارودانت بتاريخ 28 غشت 2019وفاة سبعة أشخاص وجرح آخرين بالإضافة إلى خسائر مادية جسيمة، وجدير بالذكر أن طاقمنا قد مر قبل ذلك من مجموعة من الدواويرالتي استهدفتها الأمطار الرعدية.

 أثارت الفيضانات وما خلفته من خسائر مادية ومعنوية الرأي العام الوطني،وخلَفت ردود أفعال قوية عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الوطنية التي أشارت إلى ضرورة تحسين نمط عيش ساكنة الجبل وفك العزلة عنها وضرورة اتخاذ الاجراءات الاستباقية للوقاية من أخطار الفيضانات والكوارث الطبيعية المحدقة بها.?

اخر الأخبار :