مشاهدة : 2,157

الماء في الذاكرة الكاسطورية


 

 

لا يختلف اثنان في أهمية الماء بالنسبة لجميع الكائنات على وجه الأرض. فهو أساس الحياة واستمرارها وقد تحدث عنه القرآن الكريم في أكثر من آية فقال : " وجعلنا من الماء كل شيء حي …".

وكما يكون الماء نعيما لأهله في الدنيا من حيث طعامهم وشرابهم، ومصادر فرحهم بإخراج النبات و اخضرار الأرض و كثرة الزراعة، يكون الماء أيضا هلاكا وتعذيبا لأهله في   الدنيا، إذا أمسكه الله عنهم فأخذهم الجوع والعطش، وقد يكون بلاء وهلاكا  بكثرته أيضا، فبدونه لا حضارة ولا تقدم.

وقد أجمع العديد من العلماء على وجود علاقة وطيدة بين وجود الماء وقيام التقدم والحضارة لدى الشعوب عبر التاريخ القديم والحديث. ولنا في الحضارات الكبيرة التي أسست قواعدها على ضفاف الأنهار أكبر دليل على ذلك. لأنه وبكل بساطة كثيرا ما يحتاج الإنسان وبشكل كبير للماء في أغلب أنشطته وفي مختلف الميادين، كالزراعة والطبخ والصناعة والنظافة الشخصية والمنزلية وغيرها…

وكغيرها من الحواضر والمدن، فقد عرفت مدينة مراكش منذ تأسيسها سنة 1062م من طرف المرابطين مرورا بالموحدين والسعديين، تطورا مهما في تدبير الماء و الاستفادة منه في الشرب وسقي الحدائق والعراصي والرياضات الكبيرة، وقد سخروا لذلك طرقا ووسائل كثيرة، ولعل أهمها وأشهرها على الإطلاق هو ما يسمى بالخطارات والسواقي الجارية والساقيات، وكان لكل وسيلة أو عملية خصائصها ومميزاتها على مدى تاريخ المدينة، منها ما أنشئ وبقي داخل المدينة ومنها ما أنجز خارج المدينة وعلى مشارفها وبجانب أسوارها…

وكباقي أحياء مدينة مراكش ودون الخوض في الأحياء العتيقة داخل أسوارها القديمة، كان هناك حي جديد بني خلال فترة ما بعد الاستقلال على أطراف المدينة من الجهة الغربية اتخذ اسم " كاسطور " ثم "الحي الصناعي " وهو ما يعرف الآن بالحي الحسني بمحايدات مع بعض المعامل والمصانع وبعض الإدارات العمومية والشبه عمومية ومحطة القطار والثكنات العسكرية والأمنية تفصله عن حي جليز وأخذ اسم "كاسطور " نسبة لأحد المهندسين الفرنسيين الذي وضع التصميم الأول لهذا الحي حسب بعض المصادر الشفهية. وتتكون تشكيلة ساكنيه من الطبقة الوسطى ذات الصلة بالمجالات الصناعية والإدارية والفلاحية السالفة الذكر، وشاءت الأقدار أن يكون موقع الحي داخل بعض الساقيات لمجاري الماء تحده من أطرافه الغربية والجنوبية والشمالية تمتد لكيلومترات باتجاه سقي الضيعات الفلاحية الكبرى التي خلفها المستعمر آنذاك.

وبما أنه حي جديد بمواصفات عصرية غير التي كانت بداخل أسوار المدينة، فشبكة الماء أيضا هي الأخرى عصرية، اقتحمت المنازل والمصانع والإدارات والحمامات بشكل عصري من خلال أنابيب و صنابير بداخل هذه المنشآت و المرافق الجديدة، غير أن سكان الحي وبمختلف أعمارهم كانت لهم مآرب أخرى في هذه السواقي كل بحسب قربه منها، وعلى امتداد فصول السنة، رغم وجود صنابير الماء بمنازلهم كما أسلفنا الذكر، وذلك راجع لما كانت تمتاز به تلك السواقي من نكهة وطعم خاص جعلت من بعض العمال و كبار السن والمتقاعدين من الحروب العالمية والحروب العربية ملاذا للتجمع بالقرب منها والترفيه في حلقات هنا وهناك  للعب لعبة الورق  "الروندا " أو لعبة  "ظاما " على إيقاعات السرد البطولي والرجولي لتلك المرحلة من الحروب، وقلما تجد بعض الشباب يزاحمهم ليس في تلك البطولات الملحمية وإنما في أطوار إحدى اللعب المتتبع لها، مبديا رأيه في إحدى جولاتها وغالبا ما تسمع كلمة هنا وهناك تسمى ب : " التنبيرا " التي غالبا ما يستنكرها المستحوذ على جولة اللعبة فيما ترى وشاحا من نعل أو ما شابه على صدر أحدهم، أو على رأسه تاج من ريش دجاج أو ديك رومي وهي علامات هزيمة أحد أفراد أو ثنائي اللعبة أو الجولة.  كل هذا لا يحلو إلا بعد رش هذه الملاعب إن صح التعبير بماء الساقية الجارية تلك، للتقليص من غبار الأرض من جهة والتخفيف من شدة الحر من جهة أخرى.

وتزداد اللوحة جمالا ببعض ممتهني الحلاقة التقليدية المنحدر من ضواحي المدينة الذي اتخذ من جدع شجرة الكليبتوس الكبرى مقرا لمحل الحلاقة أو صالون الحلاقة كما يحلو لهم القول، ليس له من الأثاث والإكسسوارات سوى كرسي خشبي ملفوف بالدوم ومرآة صغيرة  متهالكة الأطراف ومنشفة بالية على كتفه وصحن صغير مع قنينة ماء من ذات الساقية. وإن كان منك أن استندت أو اتكأت على هذه الشجرة نهرك وصاح فيك حلاقنا قائلا : " ما تكاش على باب الحانوت ".

وفي الجانب الآخر كانت هناك سوق يومية للدجاج والديك الرومي والحمام و القنية، غالبا ما تذبح وتغسل بجانب الساقية وبمائها أيضا، وكانت سوق منتعشة خصوصا في رمضان والأعياد الدينية وبعض المناسبات الخاصة كالأعراس والختان والعقيقة.

أما النساء كما الأمهات فكان لهن نصيب من الاستفادة من ماء الساقية بشكل آخر شبه يومي، فغالبا ما تجدهن في الصباح كما في المساء على ضفاف الساقية في عملية تصبين للملابس أو  الزرابي  أو الأغطية أو بعض الأفرشة أو غسل القمح والشعير وغالبا ما تبقى النساء هناك حتى يجفف أو يكاد كل ما تم غسله، مستغلين ساعات الانتظار في سرد بعض الحكايات أو إنشاد ما جادت به  قريحتهن من أغاني شعبية ذات اللحن القروي.

وخلال فصل الصيف فكانت الملحمة الكبرى مع الماء والسواقي الجارية على الأطراف الثلاثة للحي، فكل أبناء الحي يتجهون للساقية الأقرب لهم للاستحمام والتخفيف من وطأة الحر الشديد الذي تعرفه المدينة في هذه الفترة من السنة خصوصا بعد الظهر وفترة القيلولة إلى ما بعد صلاة العصر.

لقد كان الأطفال يستغلون هذا الوقت وهذا المجال المائي دون عناء للذهاب إلى المسابح على قلتها والبعيدة هي الأخرى عن الحي كالمسبح البلدي أو المسبح العسكري  آنذاك…

كان هذا الاستغلال يشمل أيضا تلك الأحواض المتوسطة الحجم والمربعة الشكل التي كانت توجد كمفترق لاتجاهات الساقية حيث كان بعض الأبطال يملئون مخرجها الرئيسي بالحجارة وأغصان الكلبتوس الموجود بوفرة على ضفاف الساقية كسد مائي لكي يرتفع منسوب المياه، وبالتالي يحلو فيه الغوص والقفز بشكل ممتع يعطي للسباحة آفاقا أخرى في العناد والتحدي والمغامرة التي كانت تأخذ طابع الخطورة عندما يحاول أحد الرواد المرور سباحة تحث القنطرة المائية، فيما يتسلل آخرون في غفلة منه إلى الجهة الأخرى لمنع الماء بظهورهم كدرع بشري من شخصين أو ثلاث، ليرتفع بذلك منسوب المياه ويعرضون المغامر البطل لخطر الخنق بالماء تحث القنطرة.

رغم ذلك، فهذه الأجواء الحماسية الممتعة غالبا ما كانت تكسر أحيانا على بعض صيحات الأطفال هنا وهناك على امتداد السواقي المائية: إنها نداءات الإنذار محذرة بقدوم ذاك الشخص الآتي من بعيد على دراجته الهوائية أو النارية مصحوبا بآلة المذراة وعتلة لتنقية الساقية من الحواجز الاصطناعية التي ابتدعها رواد السباحة لأجل ارتفاع منسوب المياه لسباحة أفضل، وعصى غليظة له فيها مآرب أخرى عند الضرورة.

عندها يسارع الفتية في الخروج من الماء والهروب، فمنهم من يلتقط ملابسه ومنهم من يتركها هناك ليحجز عنها ذاك الشخص: إنه أحد أعوان المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي بالحوز.

والنازلة أو القضية في ذلك أن تلك السدود التي ابتكرها الأطفال لارتفاع منسوب الماء لسباحة أفضل إنما قللت بذلك المياه المتدفقة في الساقيات لتصل بكمية أضعف وأقل للضيعات الفلاحية الكبرى المجاورة لحي " كاسطور " من الجهة الشمالية والغربية، التي يشتكي أربابها من ضعف صبيب المياه.

كما كان أبطال من نوع آخر يستغلون هذا المجرى المائي للساقيات للانتعاش بمياهها والشرب أحيانا، إما بين الشوطين أو بعد الانتهاء من مباراة كرة القدم، للاستحمام والنظافة من عرق المباراة، محليين أو ضيوف على حد سواء.

أما خلال فصل الربيع وعلى امتداد اتجاهات المجرى المائي للساقيات، ترى بعض النساء في جلسات حميمية ربيعية والصغار يلعبون بجانبهن بما جادت به قريحتهم، بصناعة منازل بسيطة ودميات صغيرة بعجين الطين وماء الساقية، فيما تحتسي أمهاتهم بعض كؤوس الشاي أو القهوة الذي أحضروها مع بعض الحلويات لعين المكان الذي كان يسمى ب" خرجة لحرش ".

وعلى الأطراف هناك خارج الحي، كان يكتب فصل آخر من فصول الماء في الذاكرة الكاسطورية، كان على خط مستقيم مع ذكريات الساقيات المائية، ولا يمكن الحديث عن هذه دون الأخرى.

الأولى مجرى مائي سطحي والأخرى هي مياه جوفية عبارة عن خطارات منها ما كان بشكل طبيعي، وأشهرها خطارات "جوزيف " المشهورة ب" زوزو"، ومنها ما بني على شكل آبار بجدران إسمنتية بها قضبان حديدية على شكل سلم يؤدي إلى قاع الجب، قادمة من خارج المدينة مرورا بجنوب الحي في منحدر مائي باتجاه الضيعات الفلاحية بشمال الحي وغربه، مخترقة كل حقول البور الزراعية آنذاك الممتدة حاليا تقريبا من حي آزلي الجنوبي و حي أزلي وحي تاركة وأحياء المسيرة 1 و 2 و 3 إلى منبع سطحي على شكل حوض مائي يسمى ب "عين البيرك "، وهي عبارة عن مخرج مائي من باب مثلث على شكل قوس مبني من الأسمنت تتدفق منه المياه القادمة من تلك الخطارات والآبار السالفة الذكر إلى السطح بين منحدرين في حفرة أو حوض واسع شبه دائري يتجمع فيه الماء ليتدفق في محور ساقية من الجهة الأخرى باتجاه الضيعات الفلاحية، والحقيقة أنه مشروع متكامل خلفه أحد المعمرين الفرنسيين المسمى "جوزيف" خلال مرحلة الاستعمار لجلب الماء لسقي ضيعات المعمرين الفرنسيين.

على امتداد هذا المجال المائي بآباره وخطاراته حتى منبعه الأخير، كان له رواد من نوع خاص، أبطال ومغامرون يجوبونه ذهابا وإيابا في جولات تحت أرضية في نفق عرضه متران وطوله أفقيا ثلاثة أمتار، للسباحة أحيانا والراحة أحيانا أخرى، هناك على منصة إسمنتية مبنية مستعينين بإضاءة بدائية حسب أولئك المغامرون وعلى رأسهم عبد الله الرئيسي والمرحوم محمد الريسيني وعبد العزيز كاير وعزيز قرباني، خصوصا في فصل الصيف.

وفي الجانب الآخر لعين "البيرك" كان شبان آخرون يستغلون هذا المجال المائي للسباحة، وكان له هو الآخر أبطال ومغامرون يغوصون داخل ذاك القوس عكس اتجاه الماء لعدة أمتار، وصولا للبئر المجاورة على نفس مجرى الماء، ليصعدوا من هناك عبر قضبانه الحديدية إلى أعلى، والعكس صحيح نزولا إلى البئر ثم أتباع مجرى الماء خروجا من القوس إلى الحوض المائي المكشوف، وراد "عين البيرك" كانوا من مختلف الأحياء التي كانت أغلبها دواوير آنذاك،  كدوار الحرش ودوار ماشو و دوار سيدي أمبارك و دوار العسكر وحي كاسطور، حيث كانت مجالا للتعارف والتلاقي بعد لقاءات المدارس الابتدائية وثانوية ابن تومرت الوحيدة آنذاك ولقاءات مباريات كرة القدم، وقلما تسجل حالات شجار أو مواجهات بين رواد السباحة هناك في جو أخوي.

وبالرجوع إلى وسط حي كاسطور، فقصة الماء خارج المنازل لم تكتب سوى على صفحة إحدى السقايات التقليدية الوحيدة بالحي، كانت توجد بساحة المارشي الكبير، وهو مجموعة من الدكاكين لمختلف المواد الغذائية، لحوم وعطارة وخياطة وفحم حجري وأخشاب للتدفئة ومكتب بريدي بجواره مكتب عون سلطة ( مقدم ) وأستوديو للتصوير، وكانت أغلب هذه المحلات التجارية تستفيد بشكل أو بآخر من هذه السقاية من شرب ونظافة شخصية ونظافة المحلات وغسل بعض المواد المعروضة للبيع، ومن حيث موقعها فقد كانت محروسة من التخريب أو الأوساخ أو تبذير مياهها من طرف مرتاديها وهم أغلبية أصحاب هذه الدكاكين وبالتالي كان الأطفال والغرباء لا يتجرؤون على حرمتها.

هذه هي حكاية الماء في الذاكرة الكاسطورية، وتلك أبهى تجلياتها عبر مجال المكان الواسع والرحب الذي غزته الآن أطنان من الإسمنت في زحف سكاني مهول، ومجال الإنسان في بعده الإنساني التلقائي العفوي البسيط الذي فقدناه اليوم وأصبح أكثر تعقيدا وتشنجا وتنافرا من أي وقت مضى، ومجال الماء تلك المادة الحيوية التي جعلها الله جوهرة الحياة وضمان استمراريتها إلى ما شاء الله.

وتبقى الذكريات هي أجمل ما يحن له الإنسان، يرويها هنا وهناك ويتفاخر بها في هذا المحفل أو ذاك، و تركت رصيدا فخريا من الشجاعة والبطولة لمن اتخذوا من الماء نعمة ونفعا أو ترفيها أو مؤنسا أو ندا أو مجالا للمعركة.

 

 

2 commentaires sur “الماء في الذاكرة الكاسطورية

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

اخر الأخبار :