مشاهدة : 2288

هل قُطع رأس الدرب ؟


 

 

كثيرة هي الأماكن التي تستهوينا وتبهرنا إما بجمالها أو بموقعها الإستراتيجي أو بروعة هندستها وجمالها الفني …

وتبقى الأماكن الضاربة في ذاكرتنا هي الأكثر تجدرا في أعماقنا، مختزلة  كل ما هو جميل وقبيح في ذات الوقت. نتذكرها ونتذكر فيها الأشخاص والأحاديث والأحداث. ومن بين هذه الأماكن ما أصطلح عليه باسم " رأس الدرب "، وهو موقع أو مكان مفتوح تجده في كل حومة وفي كل حي، هنا وهناك، ليس في ملكية أحد، بدون أبواب ولا نوافذ ولا مفاتيح ولا أي سياج، حدوده بعدد مرتاديه بحسب الأحداث والمناسبات، أما مواضيعه فهي متنوعة بحسب المستجدات ولا تخضع لبيداغوجيات ولا أنساق أو برتوكولات، اللهم بعض أعراف الجلسات المتعارف عليها لدى فئة معينة من  الناس.

وفي حينا أو حومتنا "كاسطور " الحي الحسني، كثيرة مثل هذه الأماكن أكثر من غيرها في باقي الحومات، ولعل السبب في كثرة انتشارها، شساعة الحي واتساع أزقته وكثرة دروبه وغياب أماكن لقضاء وقت الفراغ وغياب دور الشباب المتمركزة معظمها في حي" جليز" أنداك  من جهة أخرى، إضافة إلى التنوع في هذه الجلسات بحسب الفئات العمرية ودرجات ثقافتهم التي تتفاوت بحسب الأجيال الضاربة في العمر والتنشئة الشبابية الجديدة في الحي. فغالبا ما تجد الرجال من مختلف الأعمار في تجمعات ثنائية أو جماعية  أمام أحد الدكاكين فيما يعرف ب"المارشي" أو بجانب أحد المساجد أو دور القرآن ( لحضار ) سابقا أو بجانب إحدى السقايات التقليدية العمومية أو في جلسات جماعية محاذات مع الساقية المجرى المائي الذي كان يتخلل الحي آنذاك لسقي بعض الضيعات الفلاحية المتاخمة للحي في تلك الفترة،  يحكون فيها عن همومهم ومشاغلهم العملية والأسرية اليومية فيما يتفاخر الآخرون  بمغامراتهم وبطولاتهم التي خاضوها في مقاومتهم للاستعمار الفرنسي أو خلال إحدى الحروب العالمية ألأولى أو الثانية التي شاركوا فيها في أوربا أو في إحدى الدول العربية ضد إسرائيل… لتتلاقى الأفكار والذكريات هنا وتختلف أخرى هناك على أصوات وضحكات لا يقطعها سوى المهزوم أو المنتصر في لعبة الورق ( الروندا ) التي تحلقوا حولها عقب صلاة العصر إلى آذان صلاة المغرب.

فيما يلتصق الشباب إما بجانب أحد الأعمدة الكهربائية أو في رأس الدرب أو بجانب أحد الدكاكين المهجورة أو جالسين على أدراج أحد المنازل أو المحلات التجارية وذلك بعد انتهاء الحصص الدراسية للمتمدرسين أو بعد نهاية يوم عمل شاق لمن اقتحم سوق الشغل في ظل الأزمة القائمة آنذاك بعد أن انقطع عن الدراسة في سن مبكرة أو من خاض غمار مقابلة رياضية جاء يحكي ويناقش أطوارها التقنية والبدنية في صراع غلبة الرأي والمعلومة  أو من عاد مستمتعا بأفلام غربية أو هندية يحكي أطوار أحداثها ومواقف أبطالها وما شاهده في الحي الأنيق "جليز" آنذاك حين عودته لمنزله.

إضافة إلى الجلسات الرمضانية التي غالبا ما تكون بعد صلاة التراويح حيث يطول السمر في أجواء صيفية حارة مصحوبة بمشروبات غازية باردة مصحوبة بأكلة الطنجية أحيانا، بينما يتحلق الصغار في حلاقات هنا وهناك أمام هذا المنزل أو ذاك في حكايات وأحاجي تجوب و تغوص في عالم الأساطير والخيال لتنتهي الجلسة بنكث تثير ضحكاتهم البريئة.

وغالبا ما يطبع جلسات رأس الدرب هذه طابع الديمومة، حيث تتغير المجموعة بتلقائية كأنما وضع لها برنامج  مسبق للمداومة، وبما أن الجميع كان يعيش تقريبا نفس الظروف الاجتماعية الصعبة من حرمان و إحباط  أو نفس المناسبات من أعراس وعقيقة  وغيرها،  فكان لابد من تكوين مجموعات تتقاسم نفس تلك الأحاسيس بحلوها ومرها، كمتنفس جماعي تحارب فيه حالات الملل والعزلة، وهكذا كانت هذه المجموعات بمثابة مكاتب للإنصات يفرغ فيها الشباب مختلف ضغوطاتهم العائلية أو الدراسية أو العملية، يتداولونها بينهم في آراء تنتظر الحلول أو مخارج حلول مؤقتة على الأقل.

وقد تكسر هذه الجلسات في كثير من الأحيان خصوصا أيام العطل في الصباح كما في المساء ضيف غريب أو مجموعة ضيوف راجلين أو على سيارتهم الخاصة أو بسيارة أجرة مستفسرين عن أحد السكان إما بلقبه أو بعنوانه أو باسم شهرته أو شهرة أحد أبنائه، ثم يتسابق رواد رأس الدرب لإدلائه على ضالته سواء بالإشارة أو بمرافقته شخصيا إلى عين المكان، خوفا عليه من التيه أو الضياع،  وتلك ميزة وخاصية لأبناء سبعة رجال دون غيرهم من باقي الحواضر المغربية الأخرى.

دون أن نغفل الجانب التضامني الذي كان يجمع مختلف شرائح الحي من الجار متجاوزا مفهومه الإستراتيجي المكاني صعودا إلى أبعد الحدود إلى رأس الدرب وأرجاء الحومة بكاملها يخترقها ويضمها ليشملها بالتكافل والتضامن الاجتماعي في المآتم ومرافقة الجنائز وحالات المرض الإستعجالية  ليلا وعيادة المرضى في المستشفيات، إضافة إلى تقديم المساعدات للشيخ المسن أو لذوي الاحتياجات الخاصة، كما أن وقفة رأس الدرب خدماتها تكون تحث الطلب لكل الجيران خصوصا النساء الأرامل والمسنين، وهم أيضا رهن إشارة أمي عيشة و أمي خدوج أو عمي إبراهيم والحاج علي، إذا تعلق الأمر بطلباتهم في اقتناء بعض الأغراض من البقال با محماد أو إيصال الخبز ( الوصلة ) إلى الفران الشعبي، إضافة إلى حماية بنات الحي من أي تحرش أو إساءة من طرف الغرباء ( البراني ) رغم من تعتبرهن مدمنين على التدخين أو ما شابه، فهم ملتزمون أخلاقيا باحترام بنات الحي وعدم الصراخ بالكلام الفاحش أثناء مرورهن للمدارس أو لقضاء بعض أغراض أسرهن.

ويبقى رأس الدرب من الثوابت المهمة والرئيسية في مفهوم الحومة أو الحي في شقها الشعبي التراثي بحمولته الثقافية والاجتماعية والإنسانية والأمنية، هذه الثوابت التي أصبحنا نفتقدها واحدة تلوى الأخرى. فأين نحن من تلك الخدمات الإنسانية والتضامنية ؟ وأين نحن من تلك الجلسات الحميمية ؟ ما العوامل التي استطاعت إنتاج ذاك النسيج الاجتماعي الرفيع ولم تستطع إعادة  إنتاجه  ؟ هل هي أزمة قيم أم عطب في الديناميكية الاجتماعية ؟

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

اخر الأخبار :