بلاغة اللغة وتناغم الخط


مشاهدة : 362

 

   تُجمع معظم الدراسات على فصاحة اللغة العربية وبلاغتها وجماليتها، وأثبتت النقوش الأثرية التي تم اكتشافها من طرف الباحثين أن اللغة العربية تضرب بجذورها في الزمن القديم الغابر، وأنها إحدى اللغات السامية. وإن كان العلماء يردونها الى اللغات السامية فإن من مميزاتها أنها تشتمل على عناصر قديمة جدا من اللغات السامية الأصلية يقول ولفنسون: وهذا يدل على أن اللغـة العربية كانت موجودة في مهد اللغات السامية. مع العلم وحسب علي إبراهيم حسن أن " جميع التقالـيد السامية تدل على أن الجزيرة العربية هي المهد الأول للساميـين."[1] وإن كانت اللغـة العربية قد عرفت مع توالي الزمن تقلبات كثيرة وتغيرات مختلفة؛ فإنها ارتبطت بالفصاحة والجمال وحسن البلاغة بغض النظر على التقسيم الذي أطلقه البعض على العرب إلى عاربة وبائدة، فسموا العرب العاربة بذلك لرسوخهم في العربية، واعتبرهم المؤرخون أقدم سكان جزيرة العرب كما يعدونهم ساميين من نسل إرم بن سام."[2] وقد كشفت النقوش الأثرية " عن لغات قديمة بائدة منها العربية الجنوبية والأكادية والفنيقية."[3]

  واللغة العربية كانت في العصور القريبة من ظهـور الإسلام (أي قرنين ونصف من الزمن على الأقل.) كانت ذات نفـوذ واسع. وقد ظلت لغة الخط ولغة المفكرين والادباء والشعراء مستقلة بمميزاتها عبر التاريخ.  ولقد قطعت أشواطا كبيرة في التألق البلاغي والتأنق اللفظي والتصاوير ومختلف الأساليب الجمالية، وظلت نصوص الشعر الجاهلي عدة قرون أقدم نصوص عربـية معروفة عند الباحثين، وقد كشف البـحث المعاصر عن تجدر اللغة العربية في التاريخ وفي الزمن القديم الغابر، وكشف أنها مهد السامـية. وبذلك يصدق قول جورجي زيدان:" إذا نظرنا إلى لغتهم كما كانت في عصر الجـاهلية، نستدل على أن هذه الأمـة كانت من أعرق الأمـم في المدنية لأنها من أرقى لغات العالم في أساليبها ومعانيها وتراكيبها.. فالمتكلمون باللغـة الفصحى كما جاءتـنا في القرآن والشعر الجاهلي والأمثال، لا يمكن أن يكون أصحابها دخلوا المدنية أو العلم من قرن أو قرنين فقط."[4]

 ونستدل من هذا الكلام أن تلك البلاغة وذاك الجمال وتلك الفصاحة وذاك البيان لم يكونوا وليد قرنين ونصف فقط من الزمن وهي الفترة التي سبقت الإسلام، وإنما تضرب بجذورها في أعماق التاريخ. وقد عرفت ازدهارا كبيرا في البيان والبلاغة، وتميّزت بتنوّعِ الأساليب اللغويّة التي أسهمت في تطوّر مبنى الكلمات، والجُمل المُستخدَمة في النّصوص النثريّة والشعريّة، وغيرها، كما ساعدت الشعراء على اختيارِ القوافي المناسبة والتصاوير الملائمة لصياغةِ القصائد بطرق جمالية، فحققت التّأثير القوي؛ وإنما لكي تصل إلى ذاك السمو الجمالي والبلاغي لا بد أن تكون قد ضربت في عمق الأزمنة الغابرة. وتذكر المصادر أن منطقة سيناء كانت عربية تحت إمرة عربية وقد لاحظ فان دي برادن" أن منطقة سيناء التي عثر فيها على بعض النصوص كانت تابعة للعـالم العربي.. وأن سكان هذه المنطقة الذين كانوا يعملون في مناجم النحاس والفيروز ارتبطوا باللغة العربية في وجودهم فكتبوا هذه الألفباء التي تحوي ثمانية وعشرين صوتا والتي هي لغـة عربية، أما النقوش التي تركوها فيعود تاريخـها إلى زمن يتـراوح بين 1500 و1800 قبل الميلاد."[5] وقد انتشرت هـذه الأبجدية التي:" تعد أقـدم أبجدية معروفة حتى الآن انتشرت شرقا وشمالا وجنوبا."[6] وقد أصبحت" أصل الأبجديات في مختلف الأماكن."[7]

 وإذا تقيدنا بالدلائل المادية فإننا نرصد تلك الفصاحة والبيان والبلاغة تلتصق بالخط العربي لأن اللغة العربية تلازم الخط العربي وتلتصق به، فالبحث في اللغة العربية هو بحث ضمني في الخط العربي. فعندما نتحدث عن الدلائل المادية للغة العربية إنما نتحدث عن الخط العربي نفسه. وهنا يتبدى ذلك الترابط والتمازج في كل شيء بين اللغة العربية والخط، بل يتأكد التناغم بينهما. فالنقـوش التي عثر عليها في شمـال الحجاز، وعلى طـول طريق القوافل إلى دمشق تثـبت جمال اللغة العربية وجمال الخط العربي في ذلك العهد الذي اعتمد على الصحف وعلى سعف النخيل وعلى الحجارة وغيرها. وقد دونت تلك النقوش بالقلم العربي المشابه جدا للخطوط العربـية الكوفية وفيها نجد حروفا مرتبطة بعضها ببعض."[8] ولدينا نقوش: مثل: نقـش زبـد (511م)، ونـقش حـران (568م)، ونقـش أم الجمـال(250م).

وهناك كذلك نقش النمارة (328م):[9] وقد اكتشف في مدفن امرؤ القيس بن عمرو ملك العرب" وقد عثر على هذه الكتابة المؤرخة سنة 328م في جبل الدروز."[10] وقد:" أجمع العلماء على أن هذا النقش الذي عثر عليه في النمارة يمثل نصه طورا من أطوار اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، إذ كلماته عربية ما عدا كلمة واحدة، هي من بقايا الكلمات الآرامية."[11]

[12]

فلو أن أحد الخطاطين يعيد نفس النص بنفس الطريقة ويدخل الألوان ويحافظ على التراص ووحدة القياس لأن هذا النص منقوش ومرت عليه أزيد من 23 قرنا ويتمظهر جميلا على مستوى اشكال الحروف العربية وعلى مستوى التركيب، فإنه سيقدم مشهدا بلاغيا رائقا عن الخط العربي المتناغم مع جمال اللغة العربية أنذاك.  وأنا على يقين لو عثرنا على الأشعار التي كتبت بماء الذهب وعلى مختلف النصوص الأخرى التي كتبت على الرق وعلى الصحف المختلفة لوجدنا تناغما قويا بين بلاغة اللغة العربية وبلاغة الخط العربي خلال تلك الفترات الخالية. ولكننا نستشفها ضمنيا حيث إن تلك الفصاحة التي أعجز الله بها البشرية شاءت مشيئته سبحانه أن تتبدى في الخط قوية بعد الإسلام ويمتد جمال الخط العربي في الوجود كما اللغة العربية، فالله سبحانه وتعالى الذي جعل من القرآن بيانا ساحرا معجزا سخر له أقلاما بيانية وبلاغية كذلك. اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم،[13] أقلاما فاقت المائة كلها غايات في الجمال والأناقة ليعجز بها الناظرين من القياصرة والأباطرة والملوك في الغرب وفي كل البقاع الى اللحظة الآنية. ويتضح من خلال هذه النقوش الأثرية ومما تقدم أن سمو اللغة العربية وبلاغتها وكذلك الخط العربي قد جعلا معا للعرب دور في تطويـر الثقافة العالمية، فهم أهل الحـروف الأبجدية، التي تطورت إلى عدة أبجديات وانتشرت في الأقطار. وتتجلى المميزات والسمات الأولى للخط العربي بما موجود بعد الإسلام وفي الرسم العثماني، كارتباط الحروف بعضها ببعض في الكلمة الواحدة ما عدا الحروف الستة وهي: الواو والراء والزاي والألف والدال والذال فإنها لا ترتبط بما بعدها، وخلوها من النقط والشكل، فالمصاحف والرسائل التي بعث بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك كذلك كانت، قال أبو عمرو الداني:" إن العرب لم تكن أصحاب شكل ونقط."[14] وحذف الألف المتوسطة، وكذا الياء والواو، ولا تزال بقايا من هذه الظاهرة في كتاباتنا إلى اليوم مثل: لكن وكذلك وهذا وغيرها. ومما ورد في النقوش: ظلم: ظالم ** بعم: بعام ** التج: التاج. ومثل ذلك نجده في الرسم العثماني مثل: ظلمين: ظالمين ** الطيبت: الطيبات. يقول جورجي زيدان:" إن الألف إذا جاءت حرف مد في وسط الكلمة تحذف، وتلك قاعدة مطردة كانت في الخط العربي. وكذلك رسم تاء التأنيث في آخر الأسماء بالتاء المبسوطة: سنت: سنة  في مقابله في الرسم العثماني : رحمت : رحمة، وهنا تتناغم بلاغة اللغة العربية مع بلاغة الخط العربي: سنت نعمت رحمت .. حيث نتلمس قمة البلاغة التي في اللغة العربية وفي الخط العربي منذ قرون إلى اليوم.

أعود وأفتح قوسا لأعرض عليكم النظرية التي قلت لكم قبل قليل. فقد قدم د. محمد عبد النعيم أخصائي الأثريات دراسة شاملة لأصل الخطوط العربية القديمة " وأثبت أن الخطوط العربية القديمة كالمسند الجنوبي والمسند الشمالي والسعلكهاني ناشئة عن العلامـات والرموز القبائلية " الوسوم" والفن الصخراوي، وهذا يعـارض نظريـات الأصـل الخارجي التي يقترحها العلماء العرب."[15] وقد ذهب إلى أن العلامـات "الرمـوز القبائلية" التي تسمى بالوسوم كانت تستعمل من قبل البدو العرب منذ العصر الحجري الجديد حـوالي ستة آلاف قبل مـيلاد المسـيح، وقبل اختراع الكتابـة بعـدة آلاف السنين."[16] كما قدم بينة بمساعدة الصور الموضحة والمناقشات العلمية السليمة ليثبت أن الحروف الأبجدية العربية القديمة والكتابة برزت إلى حيز الوجود من الوسوم."[17] وقد خلص في استنتاج عقب نظريته تلك إلى " أن الحرف القديم إنما نشأ في اللغة العربية ذاتها."[18] بعيدا عن كل أصل خارجي من المكونات الأخرى.

هذه صورة عن اللغة العربية والخط العربي قبل قرون من ظهور الإسلام. ففي مرحلة ما بعد الإسلام نجد الكاتب أو الخطاط أن يبالغ في تجويد كتابة القرآن الكريم كي يرقى إلى مستوى بلاغته، ويتناغم الخط مع فصاحته وبيانه والشيء نفسه بالنسبة لكتابة الأحاديث النبوية الشريفة. فاتخذ الخط مناحي متجددة وتمظهر بالصور البلاغية التي تتلاءم وتتناغم مع بلاغة اللغة العربية في القرآن الكريم أولا ثم الأحاديث النبوية الشريفة ثم الأشعار ومختلف المأثورات العربية الإسلامية. وقد ساهم التحول الحضاري والثقافي والاجتمـاعي والاقتصـادي الذي عرفته الأمة في إبداع الفنان وطموحه لإنشاء بلاغة خطية تواكب الحركة البلاغية للغة العربية فتم ابتداع قلم الطومار وقلم الجليل." وقلم السجلات وقلم القصص وقلم الديباج والقلم المرصع وقلم النسخ وقلم الرياسي.. وقلم الرقاع وقلم غبار الحلبة" والخط الكوفي المربع الهندسي الشكل، والخط الكـوفي المـورق ذو الزخارف النباتية، والكوفي المجدل، والكوفي المترابط المعقد." وخفـيف الثلث، اللؤلؤ، التوقيع، الرقاع، المحقق والغبار وهو أدقها." والثلث المعتاد، جليل الثلث، المصاحف، المسلسل، المنثور، النسخ، والجليل والمحقـق، الريحـان، الرياشـي، الحواشي، الأشـعار والمقترن والمفتاح، المنسـوب، الموزون، المـدجن، المدمج، المـدور، المرسل، والتعليق، الريحان، المـحقق والرقاع والديواني والخـط المغربي وخـط الطغراء. وأمثلة الخطوط كثيرة أوردنا بعضها فقط لإدراك السيولة الخطية لكي يتناغم الخط العربي مع اللغة العربية في فصاحتها وبيانها وبلاغتها وجمالها. وهما المرتبطان فيما بينهما. هذا دفعني لأن أستجلي هذه البلاغة في شق آخر؛ فقد شكلت معظم النصوص وحدات خطية أخذت صيغها الفنية من الشكل الجمالي المبني على المظاهر المنتظمة لأن الأصل الجمالي في الخط هو الأصل الجمالي في اللغة العربية ويتعلق بهما معا في: النظم الدقيق. فكما يتم هذا النظم على مستوى اللغة العربية من حيث السمع وأنتم أدرى بنظرية النظم للجرجاني يتم على مستوى حروف الخط العربي من حيث الرؤية البصرية حيث يستعار كل حرف للآخر لوصل الحرف بالحرف والكلمة بالكلمة والجملة بالجملة والنص بالنص وهو نظم قويم وتركيب دقيق يحيل إلى معنى جمالي وإلى دلالات.

إن هذه النظرية الفنية التي تستند إلى نظم الحروف من حيث الشكل إلى حروف مفردة تؤدي معاني جمالية في نطاق تموضعها وفي نطاق ما يحيط بها من تبنيق[19] ومنمنمات وشكل وعلامات؛ وإلى حروف مركبة منظومة بشكل دقيق، تتخذ أشكالا جمالية وفق الدلالات المتصلة بالمعنى ووفق استناد الحرف إلى الحرف الذي يلائمه جماليا مما يمنحه إيحاء خاصا ولفتا للبصر يقع أثره مباشرة في النفس. وهو الوقع الذي يحدث على مستوى السمع. وهذا في حد ذاته تناغم قوي بين البلاغتين. فهذا التناسب الدقيق وهذا الترابط الوثيق على مستوى الكلام كما هو على مستوى الشكل يشكل صورة جمالية شمولية متكاملة عن اللغة العربية والخط العربي. 

  وبذلك يتبدى بأن صور الحروف العربية وأشكالها الجمالية تقدم أبلغ إيحاءاتها لتكتمل الصورة البيانية وتبلغ مداها. فكل حرف مسموع من كل كلمة مسموعة أبلغ في الإيحاء سمعا وبصرا كما هو في التصوير وفي اللفظ، استنادا إلى أن الحرف صوت مسموع وصورة مكتوبة.

فالحروف حين تصدر خافتة أو مجهورة وما يرافقها من قوة وخفض وترقيق وتفخيم وجعـــــــل الصوت يركن إلى الإيجاز والاجتماع، أو الاطناب والبسط في نطاق بلاغة الصوت وموسيقيته، مما يُحدث جماليات على مستوى السمع؛ فإنه على مستوى الكتابة بالخط العربي نجد بأن الحروف تتصف كذلك على المستوى البصري بالترقيق والتفخيم والتدوير والتخفيف والحركة والرشاقة والبسط والحدة والاسترسال والاستقامة والانحناء والليونة والمطاوعة.. مما يمنحها إيقاعات موسيقية مختلفة وجماليات متعددة، فنكون أمام خط بليغ، حيث إن الصورة على مستوى الصوت تتكرر على مستوى البصر. وهنا يتبدى كذلك التلازم جليا بين بلاغة الخط العربي وبلاغة اللغة العربية.

  فالشروط الجمالية للغة العربية التي تتحقق في الأسلوب والبيان والفصاحة والبلاغة على مستوى السمع، هي نفسها التي تتحقق على مستوى الخط العربي، لأن الخط العربي عموما في حدود المظهر يُعد كيانا متكاملا قائما بالفعل يرتبط دلاليا بمعايير روحية وفكرية وثقافية وفنية وجمالية.

  إن التركيب الجمالي للكلمات في اللغة في أي نص كيفما كان نوعه إذا ترجم إلى الكتابة بأي نوع من أنواع الخط العربي فإنه يشير إلى دلالات تلتقط عبر البصر وترسم تأثيرها في النفس، كما أن نظم الحروف عندما تعبر بالأصوات فإنها تحدد العلاقة بين المعنى ولفظه، لكن لا يجب أن ننسى أن هناك علاقة أخرى تتحدد بين المعنى ورسمه، فأهمية الكلمة في النص  ووضعها في مكانها اللائق لا يحيد عن كتابتها بالخط العربي بالشكل اللائق، وفي الموضع اللائق، كشرط للفصاحة اللفظية والخطية معا حتى يتناسب المعنى والقصد في اللغة العربية والخط العربي على حد سواء. يتبدى ذلك من خلال الحروف البينة الظاهرة المتبادرة إلى الفهم، من حيث طريقــــــة وضعها وكيفية استعمالها في المكان المناسب، وهي تقع وصفا مرئيا كما هو الشأن لها في الوصف اللفظي، فالجمال الخطي في الحروف والكلمات وفي أبعادها ومجمل نظام علاقاتها، يستند إلى المقومات المتولدة من الألوان والتذهيب والأشكال الجمالية وتأثير الأحبار ولون الخامة، فتتجاوز مهمة إمتـاع البصر إلى التشابك مع معرفة شبه تجريدية منفتحة على أداء أقرب إلى التوافق مع المعنـى اللفظي والدلالة الشكلية، حيث يمتزج الشكل بالموضوع كما يتمثل في أشكال ممتزجة بمواضعاتها ومألوفاتها البصرية. ليحدث التوافق والتناغم والانسجام.

وبناء على ذلك يمكن القول بأن الخطاط العربي قد جاهد بقلمه لإبداء الحروف وإكسابها الصبغة الجمالية البليغة إلى حد الرقي إلى تجسيد كلام الله البليغ خطيا.

وهذا قد دفعني أنا شخصيا بأن أقول: إن مرتبة نظم الحروف بدقة تركيبها وطريقة وضعها وشكل رسمها يجعلها بليغة ترقى إلى مرتبة بلاغة نظم القرآن، ذاك الكلام المعجز. فكما أن كلام الله باللغة العربية الشريفة يظل معجزا، فإن الصورة الخطية بالخط العربي ترقى هي الأخرى إلى هذه المرتبة في الدرجة الثانية. والدليل على ذلك أن الله تبارك وتعالى الذي أنزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين شاء له أن يكتب بخط عربي مبين يسّر له أشكال محددة في الحروف لتصير إلى ما صارت إليه من الجمال المبهر. ولذلك لا يوجد خط غير الخط العربي يحتوي على تلك الجماليات والتشكيلات والمنمنمات. وقد خص الله تعالى ذلك لهذا الخط العربي وحده دون سواه على يد المسلمين. فهو الخط الذي سحر العقول، وأبهر العيون بجمالياته غير المحدودة منذ القدم حتى الآن" إن سلمان بن وهب وهب كتابا إلى ملك الروم في أيام الخليفة المعتمد، فقال ملك الروم: ما رأيت للعرب شيئا أحسن من هذا الشكل، وما أحسدهم على شيء حسدي على جمال حروفهم. "[20] لقد أعجزه بصريا ولا يستطيع أن يأتي بمثل هذه الحروف العربية ولا بجمالياتها.

  إن الخط العربي مثل اللغة العربية، بل إنه ترجمانها يسير في نفس الجمال. فالوضع الجميل للألفاظ يوازيه الوضع الجميل للكلمات مكتوبة، وانتظام أسباب الجمال من الصوت في الحرف إلى الحرف، في الكلمة إلى الكلمة، في الجملة إلى الجملة، يخلف رونقا جماليا يثير الإحساس ويؤثر في النفس، وهو نفسه على مستوى الخط، حيث تنتظم أسباب البلاغة من البصر في الحرف إلى الحرف، في الكلمة إلى الكلمة.. فيخلف رونقا وبهاء، فيتركب الجمال في الذهن ويؤثر على الإحساس. وهـذان النوعان من البلاغة تختص بهما اللغة العربية وحدها، والخط العربي وحده. فهي صورة كاملة متكاملة وواحدة موحدة.  فنظم الحروف يبتدئ من صناعة أشكال الحروف ثم تواليها في الكلمة المكتوبة متراصة على النحو الجمالي الذي يليق بتلك الكلمة، ثم تواليها في الآية الكريمة بالشكل الجمالي المتناسق المتكامل الذي يليق بوضعية تلك الآية الكريمة، بأي نوع من أنواع الخط العربي بأبهى الطرق الجمالية التي تقتضيها تلك الآية الشريفة. والحروف بهذا المعنى تستبطن إيقاعا عفويا غير مصطنع، قوامه التوافق الجمالي بين خصائص تلك الحروف وبين ما تدل عليه من المعاني إيحاء أو إيماء. فما أن ترى الآية مجسدة بالخط العربي في تركيب دقيق حتى تجد أن خصائص الحروف ومعانيها هي التي تتحكم بإيقاعاتها وجمالياتها طواعية في الجمالية البصرية لمبصريها، كما أنها لو سمعت لتحكمت بإيقاعاتها الصوتية في أذواق السامعين. لأن هناك تناغما قائما بين البلاغتين.  باعتبار وجود نظام فطري يحكم العلاقات الكائنة بين الحواس والأحاسيس والمادة البصرية.  فاستيحاء معاني الحروف في جمالياتها البصرية، إنما يتفاعل عن طريق التوظيف الحرفي الذي يبرز عملية النظم القرآنــــي البصري في استواء موحد في عمليات تركيب الحــــــــــــــــــــروف والكلمات والجمل، باعتبار الجانب البصري الذي يحقق الافتتان بوضعه في الموضع الصحيح اللائق الذي يتم بانعكاس شعوري على المشاعر والأحاسيس التي تثيره جماليات الحروف في النفوس. فجمال أشكال الحروف يؤثر في الوجدان. وبذلك فالنظم في اللغة العربية يقترن بالنظم البصري للحروف بسياقات متفردة تتسم بالطابع الروحي في عملية التركيب، وطابع القدسية في عملية التموضع الحرفي، وطابع الجمالية في عملية التقييس والترصيص والتصفيف والتلوين والتزيين والتنميق بمقدار ما تشتمل عليه من معاني وما تثيره من أحاسيس في النفوس.

  إن القارئ في جماليات اللغة العربية وجماليات الخط العربي عموما من حيث النظم والتركيب، يجد سيلا من الجماليات تروم المعاني والتركيب والبيان والبديع والأشكال والعلامات والمنمنمات تغذي الوضع والتركيب لتغني المجال، وهي تتكامل وتتجانس فيما بينها في توليف بائن. لتتبدى تلك التجليات الباهية التي تدخل في النظم العام المدخل الجمالي العام بدور يؤدي المعنى المزدوج، ويؤكد على أن المادة الخطية التي شكلت ورودا جماليا هي التي رسمت معالم منهج هذا النظم الحروفي البصري اقترانا وتناغما مع النظم البلاغي للغة العربية.

 

 


 88 التاريخ الإسلامي العامر الجاهلية، الدولة العربية، الدولة العباسية علي ابراهيم حسن مكتبة النهضة المصرية وكالة المطبوعات الكويت 1971 ص 27

 التاريخ الاسلامي العامر علي ابراهيم حسن ص31[2]

 97 علم اللغة العربية مدخل تاريخي مقارن في ضوء التراث واللغات السامية محمود فهمي حجازي وكالة المطبوعات الكويت ص 134

 تاريخ آداب اللغة العربية جورجي زيدان المجل د1 ص 26[4]

 روح الخط العربي ص20[5]

 نفائس الخط العربي ص19[6]

 نفائس الخط العربي ص19[7]

تاريخ اللغات السامية ص 189[8]

144 يقول الطاهر احمد مكي: نقش النمارة قد عثر عليه على بعد كيلومتر واحد من النمارة القائمة على أنقاض مخفر روماني قديم شرقي الدروز على مقربة من دمشق،وكتب تخليدا لذكرى الملك امرئ القيس بن عمرو المتوفى عام 328م وكان ملك على الحيرة وامتد نفوذه حتى بادية الشام.( الخط العربي نشأته وتطوره الطاهر احمد مكي مجلة اللسان العربي مجلة دورية للأبحاث اللغوية ونشاط الترجمة والتعريب في العالم العربي العدد السادس شوال 1388هـ يناير 1969م يصدرها  المكتب الدائم لتنسيق التعريب في العالم العربي  جامعة الدول العربية الرباط المغرب ص 46-47

 تاريخ اللغات السامية ص 189[10]

 147 اللغة العربية وتطورها التاريخي الحسين وكاك مجلة القرويين تصدرها رئاسة جامعة القرويين العدد 1409هـ 1989م ص 62

  148 يتكون هذا النقش من خمسة أسطر وترجمته: أ هذا قبر امرئ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم الذي نال التاج

 ب وملك الأسديين ونزارا وملوكهم ، وهزم مذحجا بقوته وقاد

ج الظفر الى أسوار نجران مدينة شمر وملك معدا واستعمل

د قسم أبناءه على القبائل ، كلهم فرسانا للروم، فلم يبلغ ملك مبلغه

 هـ في القدم . هلك سنة 223 يوم 7 من كسلول (كانون الثاني) ليسعد الذي ولده ( روح الخط العربي كامل بابا ص 22 وتاريخ اللغات السامية  لولفنسون ص 190

[13]  سورة العلق

 المحكم في نقط المصاحف أبو عمرو الداني تحقيق عزة حسن وزارة الثقافة والارشاد دمشق 1960م ص 176[14]

 جريدة الشرق الأوسط عدد 8517 الأحد 11 محرم 1423  24 مارس 2002 الرياض الصفحة آثار وعمارة[15]

 جريدة الشرق الأوسط صفحة آثار وعمارة[16]

 جريدة الشرق الأوسط [17]

 جريدة الشرق الأوسط[18]

[19]  تزيين الكتابة، معجم مصطلحات المخطوط العربي قاموس كوديكولوجي، سابق، ص 47

[20]  أدب الكتاب، سابق، ص 45.

7 commentaires sur “بلاغة اللغة وتناغم الخط

  1. 426159 133384Hello, Neat post. There is an issue along together with your internet site in web explorer, could test thisK IE nonetheless may be the marketplace leader and a huge portion of other individuals will miss your magnificent writing because of this difficulty. 981408

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

اخر الأخبار :