حينما يتحول القسم الى جحيم والتعليم الى مهزلة وطنية

حينما يتحول القسم الى جحيم والتعليم الى مهزلة وطنية

في بلد يمني نفسه بإصلاح التعليم، تخرج علينا مباراة ولوج مركز التوجيه والتخطيط التربوي بمشهد عبثي أكثر من 13000 مترشح ومترشحة يتنافسون على 60 منصبا فقط، قد يبدو في الظاهر أن الإقبال الكبير نابع من جاذبية هذا السلك، فالجميع يتحدث عن مهنة المستشار في التوجيه بوصفها الجنة التي يحلم بها كل أستاذ عالق في مستنقع القسم: تعويضات محترمة، حرية في الحركة، عمل مكتبي شبه إداري بعيد عن صراخ التلاميذ، وروتين لا يحمل الضغط اليومي القاتل داخل الفصول الدراسية، لكن الحقيقة التي لا يريد أحد أن يواجهها، هي أن هذا الإقبال المهول ليس سوى هروبا جماعيا من القسم، من واقع تعليمي متهالك، تحوّل فيه الأستاذ إلى ضحية يومية لمهزلة مستمرة، اسمها المدرسة المغربية.

 

لم يعد التلميذ راغبا في التعلم، جيل الهواتف الذكية لا ينام إلا بعد أن يزحف الفجر، ساهرا على مقاطع تيك توك وسنابتشات، غارقا في محتوى خليع، وضائعا في فراغ القيم، يأتي إلى القسم نائما، كسولا، متذمرا، لا يميز بين جملة مفيدة وفيديو مضحك، كيف للأستاذ أن يدرّس، أن يقيّم، أن يخطط، أن يربي، في ظل هذا الانهيار السلوكي والمعرفي؟ لقد صار المشهد شبيها بمباراة في العبث: الأستاذ يشرح بحرقة، والتلميذ غائب بالحضور، حاضر بالغياب.

 

لكن التلميذ نفسه لا يلام وحده، إن الإدارة التربوية هي الأخرى شريكة في هذه الجريمة الجماعية، حين تمارس أكبر كذبة تربوية تحت اسم الخريطة المدرسية، يُنقل التلميذ من مستوى لآخر رغم جهله الفاضح بأساسيات القراءة والكتابة، فقط لأن الخريطة تريد ذلك، تلميذ لا يستطيع قراءة جملة عربية بسيطة، يجد نفسه في الثالثة إعدادي يُطالب بالتحليل والتفسير والتركيب، في حين أن جدته تقرأ وتكتب أحسن منه. المديرون يوقعون على محاضر مجالس الأقسام كأنها إجراءات بنكية، والأساتذة بدورهم أصبحوا جزءا من هذا الروتين القاتل: وقع ومرّر، لا تسأل ولا تعارض.

 

الدولة، ممثلة في وزارة التربية الوطنية، غيبت الصرامة كليا، ورفعت شعار العقوبة الناعمة بدل الانضباط. لم تعد هناك مجالس تأديبية حقيقية، لا طرد، لا توقيف، فقط أنشطة بديلة: بستنة، رسم، تشجير… وكأن من يخرّب حرمة المدرسة يحتاج إلى علاج فني. هذه السياسة هي التي جعلت التلميذ يتطاول على أستاذه، وعلى حرمة الفصل، وعلى كل شيء. وبدل أن نصحح الخلل، خرج علينا مشروع إعداديات الريادة، الذي لا يعدو أن يكون مسخا تربويا مموها، يلمع في الإعلام، بينما الواقع صادم: تلاميذ يجهلون أساسيات اللغة، ويحصلون على نقط خرافية، وكلها مزورة. كيف يُعقل لتلميذ حصل على 2 من 20 في العربية أن يُمنح 17 في الفرنسية؟ بأي منطق؟ بأي مصداقية؟

 

لقد تم تمييع الفروض والامتحانات، صار بعضها يشبه أسئلة دوزيم في التفاهة والسذاجة. تُطلب من التلميذ كتابة سطرين، والفراغات تمتلئ بكلمات مبعثرة، والنقط تتوزع بلا روح ولا مبدأ. وحتى المتفوقون – قلة قليلة – تسقط منهم أخطاء إملائية تقشعر لها الأبدان. لا تعبير، لا تحليل، لا استنتاج، لا تركيب… أي تعليم هذا؟

 

الأسرة هي الأخرى انسحبت من المعركة. معظم أولياء الأمور لا يراقبون أبناءهم، لا دراسيا ولا سلوكيا، وكأنهم تخلوا عن دورهم التربوي لصالح اليوتيوبرز والتيك توكرز. البعد عن الرقابة الأسرية فتح الباب على مصراعيه لانهيار القيم والسلوكات، ولم يعد التلميذ يميز بين المربي والمؤثر، بين القدوة وبين التفاهة المصورة.

 

أما الأستاذ – هذا الجندي المنهك – فمنهم من بقي وفيا للرسالة، ومنهم من سقط في الروتين، ومنهم من غرق في اللامبالاة. البعض لم يتلق تكوينا متينا، والبعض الآخر لم يكلف نفسه حتى عناء تطوير ذاته، يدرّس بلا تخطيط، بلا تقويم، بلا تدبير، كمن يحرث في البحر. في المقابل، بعض المفتشين لا يظهرون إلا في موسم التفتيش الرسمي، فاقدو الشيء لا يعطونه، ولا أثر لهم في تكوين أو مواكبة أو تحفيز. التعليم بلا تأطير جدي، والتعليم بلا محاسبة.

 

إننا نعيش سياسة دعهم يمرون، حتى صار شعار المدرسة المغربية: العام زين والنجاح مضمون. الفروض تُنفخ، الامتحانات تُميع، المديرون يتنافسون في نسب النجاح كأنها بورصة وهمية، والتلاميذ يدركون أن لا أحد يعاقب، ولا أحد يُحاسب، ولا أحد يُسائل.

 

أي تعليم هذا؟ كيف نُنتج نخبة إذا كانت الثالثة إعدادي تعج بأميين مقنعين؟ متى نصلح حال التعليم إذا استمررنا في تزوير الأرقام، وتلميع التقارير، وتزييف الواقع؟ نحن لا نحتاج لخطابات سياسية رنانة، بل إلى الصرامة، إلى الحزم، إلى القرار الجريء. نحتاج إلى وزير يملك الجرأة على قول الحقيقة، لا وزيرا يرقص على أنغام الريادة والميثاق والنموذج التنموي بينما الواقع ينهار.

 

رسالتي إلى الآباء: راقبوا أبناءكم، خاصة الهواتف النقالة، فهي تدمر عقولهم

رسالتي إلى المديرين: كفى تزويرا للإحصائيات، فأنتم تلعبون بالنار

رسالتي إلى الأساتذة: لا تكونوا جزءا من المهزلة، حافظوا على ما تبقى من كرامة المدرسة

رسالتي إلى الوزارة: إن كنتم فعلا تسعون للإصلاح، فابدؤوا من الحقيقة

 

أما إن استمر الحال على ما هو عليه، فلا تستغربوا إذا هرب كل أستاذ من القسم، وتحوّل التعليم إلى مقبرة جماعية لروح الوطن.

Laisser un commentaire

اخر الأخبار :