تشومسكي: الشات جـي بـي تــي وتفاهة الشر

1735 مشاهدة

تشومسكي: الشات جـي بـي تــي وتفاهة الشر

تشومسكي: الشات جـي بـي تــي وتفاهة الشر

مارتان لوكرو  Martin Legros (Philosophie Magazine  مارس 2023)

شنَّ الفيلسوف وعالم اللسانيات نعوم تشومسكي هجوما علــى الروبوت الخاص بالمحادثات، المُسمّى شات جي بي تي  ChatGPT، وذلك في مقالة نُشرت له في النيويورك تايمز. يـَـتَّهِمُ الفيلسوفُ هذا البرنامج بأنه زرع في الفضاء العام استعمالا شاذّا للغة واستثمارا منحرفا للفكر، الأمرُ الذي قد يشكّــلُ أرضا خصبة لما أطلقت عليه حنا أرندت تسمية  » تفاهة الشر ». إنّ جهد تشومسكي قمينٌ بالعناية والفحص.

إنّها لمسألةٌ جوهريةٌ  تلك التــي طرحها نعوم تشومسكي فـي مقالة نشرها بشراكة مع يان روبير Ian Roberts، عالم اللسانيات بجامعة كونبردج، وجيفري واتومول Jeffrey Watumull – وهو فيلسوف متخصّص في الذكـاء الاصطناعي- وهي مسألةٌ تعنـي جوهرَ اللغة والفكر والأخلاق.  يؤكد هؤلاء المفكّرون فــي  المقالةِ عينِها أنّ ما يبرُزُ من خلال مواجهةِ الذكـاء الاصطناعي إنّما هو الميسمُ الخاصُّ  بالذكـاء البشري، وهو ما يجبُ صونه والحفاظ عليه. فنحنُ البشر قادرون علـى بلورة الأفكـار وعلــى استعمال مَلَكة الكلام، لأننا نرتبط ارتباطا أساسيا شديد الخصوصية مع [فكرة] الحدّ والاستحالة وسلطان القانون. والحالُ أنّ الوعدَ الكـــاذبَ الذي يقول به الذكــاءُ الاصطناعيُّ – وهذا نقرؤه منذ عنوان المقالة – إنّما هو فــي الحقيقة اقتراحٌ مُـفْـعَـمٌ بالإغراء بــأنه من الممكن بلوغ النتائج ذاتها دون مواجهة الحدود والقواعد التــي هي للتجربةِ الإنسانيةِ بمثابةِ الأعصاب. فلنحــاول إذن تتبّع هذا النقاش الفلسفي بامتياز.

الظاهرُ أنّ تشومسكـي فطن ضرورةً ملحّة، وهـي أن ينكبّ عــلى مسألة الروبوتات الخاصة بالمحادثات، مثل ChatGPT أو Bard  أو Sydney وغيرها. إنّ هذا الفيلسوف – صاحب نظرية النحو التوليدي- يقول إن الإنسان إذْ يتكــلّم، فَـــلِأَنَّ له مَلَكَة ليس لها نظير، وطاقة داخلية تُولّد وتُبينُ اعتمادا على قواعد محدودة وعدد لا محدود من الاقتراحات التــي تمكنُّ هذا الكـائن من التعبير. وهكذا، فعندما نرى أنّ برنامجَ شات جي بي تي  ChatGPT يستطيع توليدَ أجوبة معقولة عن الأسئلة التــي نطرحها عليه، وذلك من خلال ملايين العبارات التــي حفظتها منظومته أوتوماتيكيا، فمن ذا الذي يشكّ في أنّ هذا الروبوت لن  يصير بدورهِ ناطقا مفكّرا ، بمعنـى قادرا علــى توليد الكلام والأفكـار؟ وعميقٌ دقيقٌ هـو الجوابُ الذي يقدمه تشومسكـي عن هذا السؤال، وهو جواب ينطلق فيه – كعادته –  من مثال نحويّ:  » جون أَعْنَدُ مِنْ أَنْ نعقله. » (John is too stubborn to talk to.” ). فكــل متكـلّم باللسان الانجليزي يفهم في الحال معنـى هذه الجملة، وذلك انطلاقا من معرفته باللغة واطّلاعه على السياق الذي قيلَتْ فيه، بالرغم من أن الفاعل ( جون  John ) في هذه الجملة انقلبَ وصار ضمنيا فــي موقع المفعولية، ولفظة talk التـي تعنـي في الأصل فعل الكلام صارت تدل على فعل التـعـقـيــل؛ وأمّــا إذا اعــتـمـدنـــا عــلـــى الـذكـاء الاصطــنــاعــي، فإن المعنـى الذي سيقترحُهُ هو: « جون أعندُ من أنْ يُكـــلّمَه أحدُهم »، ومردّ ذلك أن هذا الذكـاء على غير اطّلاعٍ على القاعدة ولا على السياق، بــل يبحث عن الدلالة الأقرب بالاعتماد على أكبر عدد من الجمل المشابِهة لتلك الجملة. ولكن، كما أنّ  » جون أكـلَ تفاحة  » هي نفسها  » جون أكــلَها »، فإن لتلك الجملة  احتمالات وافرة بأنْ تعنـي  » جون أعندُ من أن يكـلّمه أحدهم »، وهي أقرب إلى ذلك منه إلى « جون أعندُ من أن نعقله. »

بالنظر إلـى قدرات البرمجيات الترجمية الجديدة مثل ديبل Deepl  الذي اعتمدتُ عليه كـي أفهم المثال الذي قدّمه تشومسكي فَهْمًا جيّدا، قد نمـيل إلـى إضفاء طابع النسبية علـى ثقةِ الفيلسوفِ الكبيرةِ فـــي الذكـاء اللغويّ البشريّ، بيْد أنّ تحليلَـــهُ يبدو أكثر قوة ورصانة عند تصويب النظر نحو المبادئ والقوانين، العلمية منها والأخلاقية. لنأخذ كمثال الجملة التالية:  » سقطت التفاحة » أو  » ستسقط التفاحة « ، وَهَبْ أنّك صُغتها بعد أن أغلقت كفّكَ أو قررت إغلاقها، فالذكــاء الاصطناعي قادر على صياغة كـلّ من هاتين الجملتين؛ بيد أن هذا الذكاء يعجزُ عن توليد جملةِ :  » ما كــان للتفاحة أن تسقط لولا عملُ الجاذبية »، وذلك لأن هذه الجملةَ تفسيرٌ، أيْ قاعدةٌ تضعُ الحدّ الفاصلَ بين الإمكـان والمُحال، وهنا يُظْهِرُ تشومسكي ما بين الذكـاءين من انفصال. فالبرغم من قدرة الذّكـاء الاصطناعي الهائلةِ علــى التعلّم والحساب، فإنه يكتفي بالوصف والتوقّع، وذلك بالاعتماد علــى كمٍّ ربما لا محدود من المعطيات، مع العلم أنّ الذكـاءَ البشريَّ [يتجاوز الوصف والتوقّع] إذْ يُفسّرُ ويضبطُ، بمعنـى أنه يحدّد الممكنَ عن المستحيل، وذلك انطلاقا مما يتوفّرُ عليه من معطيات محدودة الكمِّ. وعليه، فذكـاؤُنا لا يقتصرُ على تعيينِ ما يكونُ أو ما يمكنُ أن يكون، بــل يرنو إلــى إرساء ما يجبُ أنْ يكون.

لهذه المقاربة منزعٌ أخلاقيٌّ  بَـيِّــنٌ؛ فالأخلاقُ تقوم علــى  » جعل الخلق والإبداع محدودين، وهما فــي الأصل غيرُ ذلك، وذلك بِكَبْحِهِمَا عبر مجموعة من الضوابط الأخلاقية الــتــي بِها يُعَيَّنُ الواجبُ فعلُه وما لا يجب، وبطبيعة الحال، مع إخضاع هذه الضوابط عينِها لنقد بنّاء خلاّق. وعـلى النقيض من ذلك، يُرى فــي الذكـاء الاصطناعيّ استهتارٌ جلـيٌّ بالأخلاق، وهو ما تشهدُ علـيه تلكم الأجوبةُ الــتـي تُنتجُها شات جي بي تي  ChatGPT لـمَّا تُسْأَلُ عن مسألة من مسائل الأخلاق، وهي أجوبةٌ لا تغدو أن تكون محضَ مسحٍ وتسجيلٍ لمختلف المواقع التــي يشغلها الناس. ومن ذلك يستنتجُ تشومسكي أن برنامجَ شات جي بي تي  ChatGPT إنما هو خيرُ شاهدٍ علــى تفاهة الشر [المتمثّلة فــي ] النقل والجمود والمراوغة […]. فهذا البرنامجُ يُوفّرُ أسلوبَ دفاع على نحو: « أنا لــم أقمْ سوى بتطبيق الأوامر »، وهو ما معناه إلقاء وزر المسؤولية علــى صانعيه.

وطلبا لرؤية أوضح، قصدتُ برنامجَ شات جي بي تي  ChatGPT واستفسرْتُه إنْ كــان يعلَم المقصودَ بتفاهة الشّر وإن كـــانت له بها علاقة، فكـــان جوابُه ما يــلــي:  » صحيحٌ أننـي صُنِعتُ من طرف البشر، وبالتالـي فبمقدوري أنْ أعكِسَ محدوديةَ منْ أوْجَدنــي وانحرافاتِهم، كما قد أعكسُ حدود المعطيات التــي يُدْفَعُ بــي إليها ».

ولــئن كان أدقُّ تعريف لتفاهة الشرّ هو كونها ذكـاء ذليلا خالٍ من الـــــرُّوِيّـــــة والتفكير، أفلا ينطبقُ هذا التعريفُ عينُه علـــى الذكــــاء الاصطناعــــي؟

 

          

 

اخر الأخبار :