الديمقراطية من وجهة نظر فلسفة القانون الحديثة والمعاصرة

1838 مشاهدة

الديمقراطية من وجهة نظر فلسفة القانون الحديثة والمعاصرة

نظَّمت شعبة الفلسفة ومُختبر الفلسفة وقضايا العصر، برحاب كليّة الآداب والعلوم الإنسانية بن مسيك، المائدة المستديرة الأولى، حول موضوع: « الديمقراطية من وجهة نظر فلسفة القانون الحديثة والمعاصر » وذلك بحر الأسبوع المنصرم ، بمشاركة طلبة باحثين في سلك الدكتوراه، وبحضور أساتذة من مختلف التَّخصُّصات. وتمَّ ذلك بإشراف مباشرٍ من مدير المختبر الأستاذ عبد اللّطيف فتح الدّين ورئيس الشعبة الأستاذ محمّد الشيخ، ومنسِّق المائدة المستديرة الأستاذ نبيل فازيو، وأدارت جلسات اللقاء الأستاذة الدكتورة ابتسام برّاج. امتدَّت المائدة المستدير على جلستين اثنتين: بعد كلمتين ألقاهما مدير المختبر ذ. عبد اللطيف فتح الدين، وذ. نبيل فازيو، في إطار التعريف بهذه اللقاءات، التي سيعقدها المختبر، بالتَّوازي مع أنشطة أخرى مسّطرة لهذه السنة.

افتتح الأستاذ عبد اللطيف فتح الدين مدير مختبر الفلسفة وقضايا العصر، كلمة الشكر التي وجهها للمتدخلين والأساتذة نبيل فازيو كمنسق المائدة المستديرة وبراج ابتسام ومحمد الشيخ رئيس الشعبة وكل أعضاء المختبر الأستاذ عبد الإله بلقزيز وسيعد بنتاجر وخالد لحميدي وأيضا للطالب الباحث محمد زكاري المشرف على خلية التواصل داخل المختبر.

جاء نصُّ كلمته كالتالي: الزملاء الأساتذة الكرام، طلبتَنا المشاركين الأعزاء، أيها الحضور الغالي.

« أرحب بكم غاية الترحيب في هذه المائدة المستديرة التي يشرف عليها مختبرنا إشرافا معنويا ويتولى الإشراف عليها إشرافا فعليا الزميل العزيز النشيط نبيل فازيو …

منذ سنوات معدودات أصدر فيلسوف شاب أمريكي يدعي Jason Brennan كتابا أثار ضجة واسعة في عالم الفلسفة السياسية الغربية المعاصرة اختار له من الأسامي الاسم المزعج المقلق Against Democracy (ضد  الديمقراطية). Against Democracy est un livre de 2016 du philosophe politique américain Jason Brennan. Le livre conteste la croyance selon laquelle la version simplifiée de la démocratie utilisée au 21e siècle est bonne et morale. كيف يمكن لفيلسوف، لا سيما في زماننا هذا الذي هو زمن الديمقراطية بامتياز، أن ينتقد « أقدس الأقداس » التي هي « الديمقراطية »؛ خصوصا وقد اقترن في الأذهان أن « الفلسفة » هي ـ بلغة ابن رشد ـ « الأخت الرضيعة » للفلسفة؟

قد يتساءل متسائل: أي شيطان وَسْوَسَ لكم باتباع طريق برينان هذا وإقامة مائدة مستديرة جُلُّ المداخلات فيها تلقي نظرة نقدية على « الديمقراطية »؟

الحقيقة أننا وفاءً منا لروح الفلسفة التي تعني، من بين ما تعنيه بل من أهم ما تعنيه، النقد، واستجابة لروح الفيلسوف الذي قال: « عصرنا عصر النقد »، فإننا لا نريد في هذه المائدة المستديرة ـ ونحن نتحدث عن الديمقراطية ـ التقديس ولا التدنيس، بل نريد التمحيص.

وحين أقول « لا نريد » فإن « نحن » هنا لا تعني « شيوخ الفلسفة » ـ حتى بمن فيهم شيخنا محمد الشيخ ـ وإنما نريد بنحن هنا « شباب الفلسفة » من الشباب الباحثين الذين سوف يزينوا منصة هذه القاعة تباعا. وكيف لا يكون الأمر كذلك، وقد اتبعت الشعبة عندنا دائما طريقين متكاملين: الانفتاح على كل الطاقات الفلسفية المغربية بلا روح قَبَلِيَّة، وتشجيع الأصوات الجديدة والشباب حتى يكونوا خير خلف لخير سلف؟ فما بالكم إذا اجتمع هذان الطريقان في مائدة اليوم: شاب يقود شبابا في موضوع يحوز اهتمام الشباب!

لا أريد أن أطيل عليكم، وإنما أردت أن أحمل إليكم هذه البشارة باستئناف المختبر لأنشطته بعد توقف اضطراري نظرا لما تعرفونه من ظروف الجائحة. وأُسَلِّمُ الكلمة إلى مسيِّرة الجلسة الأولى التي سوف تقدم لكم برنامج هذه المائدة وضيوفه. وهي أيضا شابة من شباب الفلسفة بهذه الشعبة. والذي يبدو لي هو أنني سوف أكون اليوم الشيخ الوحيد بين الشباب، لكن اطمئنوا فلن أتصابى عليكم … »

افتتحت الجلسة الأولى بمداخلة للطالبة الباحثة هاجر حناتي، عنونتها ب: « في خصوصية مقاربة فلسفة القانون لمشكلة الديمقراطية« ؛ حيثُ ركَّزت على  التصور المعاصر للديمقراطية وهو من التصورات التي خرجت من رحم فلسفة القانون المعاصرة، والدليل على صحة هذا القول، هو أنها ديمقراطية لا تحيا إلا بالقانون؛ وذلك لكونها تستمد مصدر وجودها منه. ولهذا السبب بالذات تلبست الديمقراطية الثوب القانوني السياسي الفلسفي، لتفرز تصورا جديدا لم يسبق لنا به عهد، بمكنته حل المعضلات التي خلفتها كل أنواع الديمقراطية الكلاسيكية التي سادت في القدم أو في العصور الوسطى.  وعلى هذا الأساس اهتجس ثلة من فلاسفة القانون والسياسة العظام المعاصرون بالديمقراطية، وأولوها الأهمية والعناية الكبرى، وجعلوها النواة الأساس لتفكيرهم، وكيَّفوها مع نظرياتهم، ليتأسس بفضل هذه المجهودات، توجه جديد بدأ مع شامبتر، هانز كلسن، كارل بوبر، آلف روس، وتُوّج مع نوربرتو بوبيو، حيث كان الهدف الأساس منه القطع مع ديمقراطية القدماء، والتأسيس لديمقراطية جديدة، ميسمها الأساس الطابع الإجرائي العملي. ولعل ما دفع هؤلاء الفلاسفة إلى التأسيس لهذا الاتجاه الجديد، ورفض التصورات القديمة للديمقراطية، هو أنها تصورات انطوت على قدر كبير من الصورية، بحيث تم قديما تعريف الديمقراطية تعريفا كلاسيكيا بأنها: « حكم الشعب نفسه بنفسه » أو نمط الحكم الذي يسعى إلى تحقيق أكبر قدر من المساواة الاقتصادية والاجتماعية للشعب. والحق أن هذه التعاريف المقدمة تعاريف غير مقنعة ولا يرتضيها نوربرتو بوبيو، لما تفسحه من حيز كبير للذاتية واللايقين بسبب صوريتها المفرطة، ولهذا فقد كان السؤال الوحيد الذي يبدو مهما بالنسبة إلى هذا الرجل فيما يتصل بتحديد المعايير البسيطة لتعريف الديمقراطية هو: « من يحكم؟ » و »كيف نحكم؟ »، بحيث ستقودنا الإجابة على هذا السؤال إلى معايير تعريف إجرائية يسميها بوبيو بقواعد اللعبة.

تلتها مداخلة الطالب الباحث رشيد بنبابا، اقترح لها عنواناً: « الديمقراطية بين هابرماس وكلسن » كان مدارُ هذه الورقة على مسألة ارتباط الديمقراطية عند هابرماس بتفاصيل الحياة المدنية والسياسية والاجتماعية، فهي ليست مجرد نظام للحكم والسيادة، بل هي ممارسة وفعل إنساني يتغيى مشاركة جميع الأفراد على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم الثقافية والسياسية في تحديد طبيعة السلطة، وذلك في أفق صياغة قوانين عادلة. إن هذا النوع من الديمقراطية لا يكون جاهزا، بل هو بناء يتخذ من مشاركة الجميع عبر مبدأ المساواة القاعدةَ الأساس. ومنه، لا وجود لقانون أو مبدأ سابق عن هذه المشاركة السياسية التي تحدد المعالم الكبرى للسلطة والدولة والسيادة. بهذه الخلفية حدد هابرماس الديمقراطية باعتبارها سيرورة بناء الدولة، لأنها تتخذ من النقاش العلني والسجالي المفتوح أمام الجميع المبدأ الأساس. وفي المقابل، قدّم كلسن تصوّرا وضعيا للديمقراطية مستبعِدا الإمكانيات الأخلاقية، بحيث انطلق من مسألة وجود فكرة قبلية هي فكرة الدولة. إنها مؤسسة سابقة موجودة بفعل عوامل أزلية، وإذا لم يكن لها مشروعية، ووجود حقيقيّ، فيجب التسليم بها افتراضاً. إن الدولة هي الأصل، وهي مجرد فكرة لها شكل ووجود يُمثِّله الدستور. إنه القاعدة والمبدأ الأساس الذي يتضمن طبيعة السلطة السياسية وشكل النظام ونوعية الحكم، ولا يخضع الدستور لأيّ قوة خارجية أو سيادة فوقه، بل يستمد قوته من ذاته، وتوجد هيئات مركزية تُمثله.

أما الجلسة الثانية، فقد ضمَّت جلسات ثلاث؛ تقدّمتها مداخلة الطالب الباحث مصطفى فؤاد « الديمقراطية ووعودها الكاذبة« (باللُّغة الفرنسية) ملخّصها: أن دعوةً كانَ قد أطلقها نوربرتو بوبيو مدارها على مجموعةٍ من الأسئلة. فإذا كانت الديمقراطية، وفقًا لتعريف بسيط، مجموعة من القواعد الإجرائية؛ فكيف يمكننا أن الاعتقاد أنه يمكننا الاعتماد بشدة على المواطنين الفاعلين؟ -وإذا كان لديك هذا النوع من المواطنين، أليس من الضروري أن يكون لديك مُثُل ومعايير تتحدَّدُ بها قيمتهم؟ نحتاج – على حد قول بوبيو إلى مجموعةٍ من المعايير -: أولاً: فضيلة التسامح التي وضعت حداً (أو تقريباً) لحروب الدين، وإذا كانت لا تزال هناك مخاطر ضارة بالسلام، فإنها لا تأتي إلا من التعصب. ثانيًا: مبدأ اللاعنف وفقًا لما قاله ك. بوبر، فإن ما يميز نظامًا ديمقراطيًا عن الآخر هو حقيقة أنه في الحالة الأولى، يمكن للمواطنين وضع حد لحكومة دون إراقة دماء أو ثورة أو حرب. أدخلت القواعد الرسمية للديمقراطية تقنيات التعايش السلمي وحل النزاعات بطريقة غير عنيفة. إذا احترمنا القواعد الديمقراطية، فالخصم ليس عدوًا يجب القضاء عليه، بل خصمًا، في اليوم التالي، سيكون قادرًا على الحكم.

ثمّ مداخلة الطالب الباحث يوسف أقرقاش بعنوان: « الديمقراطية ومبدأ سيادة القانون داخل الأنظمة الدولتية« ؛ مدار المداخلة على الديمقراطية الحديثة التي تتحدد بمبادئ ثلاثة، وهي الحكم التمثيلي وفصل السلط وسيادة القانون، غير أن الأصل في هذه المبادئ الثلاثة هو مبدأ وحدة السيادة. والسيادة لا تعني شيئا غير الإقرار بوجود سلطة شرعية واحدة، هي التي تملك الحق في اتخاذ القرار السياسي. ولما كانت شرعية السلطة محط نزاع بين من يحصرها في مبدأ السيادة الشعبية ومن يربطها بالحقوق التاريخية والوراثية، فقد سعت الدولة الحديثة إلى تحصين مبدأ الشرعية بنصوص قانونية (الدستور) لا تقبل الجدال، وصار القانون بذلك جزءا لا يتجزأ من الحكم الديمقراطي. لقد ترسخ هذا التماهي بين الشرعية والدولة والديمقراطية بفضل نظرية العقد الاجتماعي، التي لا تتصور أي بديل عن السلطة غير الفوضى. غير أن السلطة نفسها حتى لا تتحول إلى تسلط وعنف لا بد أن تستند إلى قانون وضعي تعاقدي. وهذا الأخير أيضا لا يكون شرعيا إلا إذا كانت غايته تأمين الحقوق الطبيعية للأفراد. وهكذا ترسخ في أذهان الناس أن القوانين هي من تؤمن وجودهم وتحفظ حقوقهم، وأنه لا بديل عنها غير العنف والفوضى. لم يكن هذا الارتباط بين الحقوق والقوانين الوضعية ضروريا في الماضي، سواء مع اليونان أو مع الرومان، وحتى خلال عصر النهضة لم يجرؤ أحد من الحكام على تجاهل أعراف وعادات الجماعة، لكن لما كانت سلطة هؤلاء الحكام أقوى من سلطة الجماعة، فقد ابتدعوا بعض المبادئ التي لا تهدف إلى إلغاء قوانين الجماعة، وإنما فقط إلى وقف سريانها؛ أهم هذه المبادئ ما عُرف آنذاك بـ »الضرورة لا تعرف قانونا »، و »انقلاب الدولة » coup d’État، و »منطق الدولة » raison d’État. وبهذا حاول الطالب الباحث يوسف أقرقاش أن يبين علاقة مبادئ وقف سريان القانون بسيادة القوانين الوضعية والتصور القانوني للسلطة والدولة عموما.

بالإضافة إلى مداخلة الطالب الباحث نبيل شيلي بعنوان: « المواطنة والمشاركة السياسية من منظور نانسي فرايزر » والذي أفاد بأنه لا يمكن الحديث عن بناء الديمقراطية إلا داخل المؤسسات، والتي تجعل من الممكن ممارسة الديمقراطية في الواقع، وهذا لا يكون إلا إذا تحررت المرأة من القيود المسلطة عليها، وأصبحت فاعلة في المجتمع عن طريق المشاركة السياسية، صانعة ذاتها ومنافسة الرجل في الفضاء العام السياسي. كما أن الديمقراطية لا يمكن أن تبقى ثابتة، بل تخضع لتقلّبات الأحداث السياسية عبر العالم،خصوصا في البلدان التي تعرف التعدد في الهويات، ويصبح من الصعب تحقيق العيش المشترك، بدون نهج سياسة فعالة تضم كل أطياف المجتمع، للدخول في عالم متعدد يحترم الجميع، ويستطيع كل فرد بناء إرادته الحقيقية.

اخر الأخبار :