سلسلة أيقونة حوار الثقافات الحلقة 5 : لليهود بصمة على الصالون المغربي بمهارة وإتقان
4202 مشاهدة
يواصل موقع مراكش7 نشر سلسلة المغرب أيقونة لحوار الثقافات والتي يعدها الزميل عبد الواحد الطالبي ، فبعد الحلقات الماضية :
الحلقة 1 : مظاهر فن العيش المغربي من خلال التأثير العبري
الحلقة 2 : الزي المغربي التقليدي استوحي تفصيلاته من لباس الأحبار اليهود والرهبان المسيحيين
الحلقة 3 : تشابه الطقوس ووحدة العادات في المزارات عند المغاربة مهما اختلفت دياناتهم
الحلقة 4 : الصياغة صناعة اليهود المغاربة بامتياز
ندرج الحلقة الخامسة حول موضوع :
اليهود المغاربة اختصوا بصناعة الافرشة من حشوة الصوف او القطن او الحلفاء
الصالون المغربي اناقة فريدة وذوق رفيع استأثر بهما داخل المعمار العربي الاندلسي
لا يخلو بيت مغربي من مجلس الضيوف وهو « صالون » مؤثث بأنواع الافرشة التي تضمن الراحة لضيوف البيت وتشعرهم بالاطمئنان يحمل بصمة اليهود المغاربة بمهارة وإتقان.
صالون البيت المغربي هو في الغالب فراش من عهن وستائر من حرير وبساط من صوف ووسادات للاتكاء وبعض أثاث للاستقبال.
اليهود ميزوا الصالون المغربي عن صالونات الارائك
وفراش الصالون المغربي حشوة صوف أو قطن أو حلْفاء في قماش من نوع « الكيرية » كان يخيطه فئة من اليهود المغاربة اختصوا به وميزوا بذلك البيت المغربي عن غيره من بيوت العرب الذين يفترشون السجادات قبل مداهمة الارائك لفنون عيشهم.
حشوة « الكيرية » تعكس مستوى الاسر بين الاقتدار والعفاف وضيق اليد. كان الميسورون يحشون أفرشتهم من جيد الصوف المنفوش المعد للنوم والتوسد ويكتفي المتوسطون بالقطن حشوة، والقطن إنما هو فضلات المصانع من نسج القطن والاشتغال به فيما حشوة الحلفاء للذين لا تسع الصوفَ والقطنَ أيديهم.
الحلفاء سعف من دَوْمٍ يشذب ويقطع ويدق أو يطحن حتى يصير شرائك رفيعة قصيرة يابسة وتحشى بها الافرشة دون المخدات.
كان اليهود المغاربة مختصون بخياطة الافرشة عندما كانت الخياطة مهنة ممجوجة لدى العرب، وبرعوا فيها وأبدعوا حتى أزرى الصالون المغربي بصالونات الارائك.
ادوات الخياطة وطعنات اليهودي أعطت لفراش الصالون اسمه
استعملوا « المخيَط » وهو إبرة في عقبها ثقب (سَم) ينفث منه خيط رمادي اللون قطني المادة مفتول بإتقان متينٌ يرتقون به الثوب من نوع « الكيرية » ويرقعون عليها « النبّاتة » وهي وردة من قماش يشدون بها بطن الفرش الى ظهره ليُؤَزِّرَ نفسه ويستحمل ثقله وثقل الذين سيستعملونه نوما وقعودا.
والمخيَط مسمار بطول دراع رجل كان اليهودي يرشقه في حشو الفرش بعد أن يكون خاط الحواشي سوى من فوهة يظل يلقي بجوفها الصوف او القطن او الحلفاء حتى إذا امتلأت بمقدار سمك لا يعلو عن ٢٠ سنتمترا ولا يطول أكثر من مترين وعرضه بين ٦٥ و ٧٠ سنتمترا شد الخياط وثاق الفوهة مع الحواشي بلفة متقنة كَسورِ القلعة تحيط بالفرش من أعلاه ومن أسفله.
طعنات اليهودي ب »المخيَط » للفرش هي التي استمد منها هذا الفرش في اللسان المغربي اسم « المضربة » لكثرة ما نالت من الضرب مع الطعن، فكلما كان « مول المضارب » يتقدم في صناعة الفرش زاد طعنه وضربه امعانا في تحقيق الاستواء والمرونة التي تزداد مع مرور الايام لكثرة الاستعمال قبل مرحلة الارتخاء والترهل عند القِدم.
الكيرية القماش الذي لا يبلى ويجهل لاسمه المصدر
أما « الكيرية » فهو القماش الذي أفرده المغاربة لأفرشتهم من « المضارب » ولم يجعلوه لغيرها وكان رمادي اللون مضلعا بخطوط سوداء ثم أصبح موردا واتخذ بعد ذلك رسومات مختلفة وألوانا عديدة، كان قماشا متينا جدا لا تنال منه صروف الدهر ولا يكاد ينال المخيط من عذريته شيئا بل لايفتأ بصعوبة ينسَلُّ من نسج خيوطه.
لا يعلم لاسم « الكيرية » مصدرا ولكن اليهود كانوا في أحياء الملاح والاسواق المتخصصة تجار هذا القماش يبيعون كل ما تعلق به من خيط وحلفاء وقطن ويخيطونه الا الصوف فهي تجارة المسلمين في سوق الغَزْلِ بامتياز يبيعونها « ودحة » تذعن لأيدي النساء اللواتي يحرصن على غسلها وتنقيتها ونفشها وانتقاء ما يصلح منها ل »المضربة » وما يصلح للمخدة.
وحدهم اليهود المغاربة من كانوا يخيطون الافرشة للصالون المغربي ولغرفة النوم للزوجين، ولم يكن المغاربة يحتاجون الى الارائك ولم تكن الارائك تغري الاسر للاستعاضة بها عن بلاط الارض الذي يكسوه المغاربة عادة باللبد او السجادات أو البساط كل أسرة وما طالت يدها مما يزخر به فن العيش المغربي في الزربية المحلية أطلسية أو صحراوية أو فاسية أو رباطية أو حنبلا.
أصالة الصالون المغربي مرآة الثقافة المغربية المتسامحة المتعايشة
وكان الصالون المغربي سباقا الى فرشه الذي حافظ على أصالته واستأثر دون بقية مجالس البيوت العربية في شمال افريقيا والشرق الأوسط أوالخليج بذوقه الرفيع وأناقته الفريدة التي يزيد من بهائها وبديع جمالها حسن المعمار ورونق الزخرف من فسيفساء الجدران وتنميق السقوف.
ولم يكن كل ذلك ليتأتى دون قيم الانفتاح والتعايش والتسامح التي طبعت حياة المغاربة منذ زمن بعيد في علاقاتهم بالآخر مهما تغيرت ديانة هذا الآخر أو عقيدته أو مذهبه وهو ما أغنى الثقافة المغربية وعدد روافدها التي تعتبر الثقافة العبرية إحداها.
إن صناعة الافرشة في المغرب وخياطة « المضارب » وهي كالخيام عنصر استقرار وضمان السكن والسكينة تجسيد آخر لمعنى التعايش بين الثقافات وحوار الحضارات في أرض المغرب الذي كان ليهوده بصمة على فن عيش سكانه وأهله.