الحقيقة بنت الوضوح

1058 مشاهدة

    أميل إلى الاعتقاد أن الحقيقة كلما كثر حولها الكلام واللغط ضاعت وتبخرت. الكلام إن لم يصحبه فعل مترو يتحول إلى أداة تميت صاحبه معنوياً. السبب أن الفكرة إذا اِنفصلت عن الشعور تعطلت الاستجابة – التمازج بين الفكرة والشعور ينتج عنه الحماس الثوري الرافض للخضوع بدافع القهر. الحماس هو محرك التاريخ كما يقول غوتيه.

إن السلطة السياسية المحترمة والجدية والتي تتخذ من الديمقراطية طريقة في الحكم لا تنساق وراء الأهواء الفردية، وتبقي جذوة الحماس -بالمعنى الذي ذكرته- مشتعلة لئلا تخلق أناساً عدميين. ولن أجازف إن قلت أن إلحاد الكثيرين، وتفاقم الأعمال الإجرامية التي تجد مبررا لها في غريزة البقاء أو في الشعور بالقيمة من خلال إفزاع الآخرين وحرمانهم من نعمة الأمن النفسي، سببه السلطة السياسية.

وإذا ظهر شخص له إرادة فضح هذه التفاهة ومنشأها يكافح من أجل إسكات صوته، وسلب حرية الكلام منه. إنها تعلم أن حرية الكلام والتعبير عن الرأي حق كوني ولكنها لا تحمل الأمر محمل الجد. إنها تسارع، عكس ذلك، إلى تقديم الأشخاص قرابيناً انتصاراً لمصالحها.

وهذه ظاهرة تاريخية لا تفتأ تتجدد، وهي تدل على أن البشر، على وجه العموم، فشلوا في كبح الغريزة وتجاوزها. ولعل استعارة الإنسان الأعلى عند نيتشه تكمن حقيقتها في هذا التجاوز المدفوع بصبوة نحو معانقة الصورة المثالية للبراءة الخالصة. هناك سَلبيّة مقلقة تعاني منها السلطة السياسية، وهي أنها تقترف الخطأ ولا تعترف به أو تتمادى فيه مع إدراكها له، وهي بذلك تتنكر إلى طبيعتها النسبية، وتتوهم أنها والمطلق سواء.

في ظل هذا البؤس العام يتأرجح الناس بين المديح والإدانة: يمدحون الخطأ مكرهين نظرا لانعدام الوعي الجماعي، ويدينونه مع أمل متنامٍ لإحداث تغييرٍ في مسارات التفكير. إن السلطة السياسية المصابة بوهم جنون العظمة لا تولد إلا البؤس، والبؤس لا يولد إلا الإحساس بالعبث، وهما معا لا يولدان إلا واقعاً مزيفاً ومقززاً. باستطاعة الناس أن يستعيدوا هذا البؤس لصالحهم جاعلين منه طاقة محررة بدل الإذعان له والتسليم به كَقَدَرٍ لا يُرَدُّ

 

اخر الأخبار :