
بقلم :حبيل رشيد.
في صباحٍ أكاديمي مشحون بالجدية والوقار، صباح الجمعة 19 دجنبر 2025، شهدت رحاب كلية العلوم القانونية والسياسية التابعة لجامعة الحسن الأول بسطات لحظة علمية فارقة، لحظة لا تُقاس بزمن المناقشة فقط، بل بما راكمته من دلالات معرفية ورمزية، حيث نوقشت أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في تخصص القانون العام والعلوم السياسية، تقدم بها الطالب الباحث وديع المهتدي، في موضوع دقيق وعميق راهنيًّا ومفاهيميًّا:
“دور القاضي الدستوري في ترسيخ الحكامة السياسية بالمغرب”.
منذ الساعات الأولى للصباح، بدت الكلية وكأنها تستعيد معناها الأصيل كمجال لإنتاج الفكر، لا مجرد فضاء للعبور الإداري. حضور نوعي، نقاش رصين، وأجواء علمية تعكس قيمة الموضوع وأهمية المقاربة التي اختارها الباحث، في زمن أصبح فيه الحديث عن الحكامة ضرورة سياسية ودستورية، لا ترفًا نظريًا.

الأطروحة التي تقدم بها الباحث وديع المهتدي لم تكن مجرد استعراض للنصوص أو تلخيص لمسار القضاء الدستوري، بل جاءت كمحاولة علمية واعية لإعادة مساءلة دور القاضي الدستوري باعتباره فاعلًا مؤسساتيًا محوريًا في ضبط إيقاع السلطة، وترشيد الممارسة السياسية، وحماية الخيار الديمقراطي، في ظل التحولات الدستورية التي عرفها المغرب، خاصة بعد دستور 2011.
وقد أشرف على هذا العمل العلمي الدكتور المصطفى المصبحي، الذي تولى رئاسة لجنة المناقشة، وهو اسم وازن في الحقل الأكاديمي، معروف بصرامته العلمية ودقته المنهجية. وضمت اللجنة في عضويتها نخبة من الأساتذة الباحثين، الذين أثروا النقاش بملاحظاتهم العميقة وأسئلتهم الدقيقة، ويتعلق الأمر بكل من الدكتور عبد الرزاق كبوري، والدكتور سعيد شكاك، والدكتور محمد طالب مقررين، إلى جانب الدكتور عبد الرحمان شحشي مشرفًا، والدكتور رشيد السعيد، والدكتور منير الحجاجي عضوين، وهي تركيبة علمية تعكس ثقل المناقشة وجديتها.

خلال عرضه، أبان الباحث وديع المهتدي عن تمكن لافت من أدوات البحث الأكاديمي، وقدرة واضحة على الربط بين النظري والعملي، بين النص الدستوري والاجتهاد القضائي، وبين المفهوم والممارسة. تناول دور القاضي الدستوري لا باعتباره مجرد “مفسر للنص”، بل كفاعل دستوري يساهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، في ترسيخ الحكامة السياسية، من خلال مراقبة دستورية القوانين، وضمان احترام مبدأ سمو الدستور، وحماية الحقوق والحريات، وضبط العلاقة بين السلط.
الأطروحة فتحت نقاشًا عميقًا حول حدود تدخل القاضي الدستوري، وإشكالية التوازن بين احترام الإرادة التشريعية وضمان المشروعية الدستورية، كما تطرقت إلى تطور الاجتهاد الدستوري المغربي، ومدى مساهمته في بناء دولة القانون، وتعزيز الثقة في المؤسسات، وهي أسئلة تكتسي أهمية خاصة في السياق المغربي الراهن.
وقد تميزت المناقشة بتفاعل علمي راقٍ، حيث قدم الأساتذة أعضاء اللجنة ملاحظات دقيقة، جمعت بين التثمين والنقد البناء، وأثاروا إشكالات منهجية ومفاهيمية أغنت العمل، ودعت الباحث إلى توسيع بعض الزوايا وتعميق أخرى، خاصة فيما يتعلق بالمقارنة مع تجارب دستورية أخرى، وبموقع القاضي الدستوري في هندسة الحكامة متعددة المستويات.
وفي ختام المناقشة، قررت لجنة التحكيم منح الباحث درجة الدكتوراه بميزة “مشرف جدا” مع التوصية بالنشر، وهو قرار يعكس القيمة العلمية للأطروحة، ويؤكد أن العمل يشكل إضافة نوعية للمكتبة القانونية والدستورية المغربية، وقابل لأن يتحول إلى مرجع أكاديمي للباحثين والمهتمين بالشأن الدستوري.
هذا التتويج العلمي ليس تتويجًا لحظة عابرة، بل هو ثمرة مسار طويل من البحث والمثابرة، ويعكس شخصية الباحث وديع المهتدي، الذي جمع بين الجدية الأكاديمية والالتزام المعرفي، وبين الوعي القانوني والانشغال بقضايا الشأن العام. وهو اليوم، بهذا الإنجاز، ينضم إلى كوكبة الباحثين الذين اختاروا أن يجعلوا من البحث العلمي أداة للفهم والنقد والبناء.
وإذ نهنئ الأستاذ والمحامي وديع المهتدي على هذا التتويج المستحق، فإننا نهنئ أيضًا الكلية، والجامعة، وكل من ساهم في إخراج هذا العمل إلى الوجود، لأن الأطروحات الجادة لا تُحسب فقط لأصحابها، بل تُحسب للبيئة العلمية التي احتضنتها.
كما لا يفوتنا، في هذا السياق، أن نوجّه خالص التحية والتقدير للضيف العزيز، ابن الجنوب الشرقي، ابن مدينة زاكورة، الفاعل الجمعوي والسياسي والرياضي، الصديق زكرياء أجديك، الذي شرف هذا العرس العلمي بحضوره، في دلالة رمزية على أن المعرفة لا تنفصل عن الفعل المدني، وأن الجامعة تظل فضاءً مفتوحًا على المجتمع وقضاياه ورجالاته.
لقد كانت هذه المناقشة أكثر من حدث أكاديمي… كانت لحظة انتصار للفكر، وللبحث الرصين، وللقانون حين يُقرأ بعين الحكامة، وللدستور حين يُفهم بوصفه عقدًا سياسيًا وأخلاقيًا قبل أن يكون نصًا قانونيًا.
هنيئًا للدكتور وديع المهتدي…
وهنيئًا للجامعة حين تنتج علمًا يُناقش… ويُوصى بنشره… ويستحق أن يُقرأ.
![]()







