
لم أتوقع يوماً أن أشهد بعيني، أو أقرأ في صحيفة، أن شركة عقارية تجرأت على هدم مسجد قائم داخل كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة القاضي عياض، ومعه جدار القاعة الرياضيةللجامعة وجزءاً من سور المؤسسة. ما وقع يوم الأحد 10 غشت 2025 لم يكن حادثاً عرضياً ولا سوء تفاهم إدارياً، بل كان اعتداءً صريحاً ومخططاً له استهدف قلب الجامعة ورمزيتها وهيبتها.
إن للجامعة مكان الصدارة في وجداننا، حيث إنها ليست مجرد بنايات حجرية أو جدران إسمنتية، بل إنها فضاء مقدس للعلم والمعرفة وملاذ للطلبة والأساتيذ الباحثين والإداريين والأعوان وحصن من حصون الدولة الحديثة. حين تَدُك جرّافة أركان مسجدها وجدار قاعتها الرياضية، فإن الأمر يتجاوز مجرد أضرار مادية ليصل إلى جرح عميق في الذاكرة والرمزية والاحترام.
لقد اطلعتُ، كما كل مكونات الجامعة، على محاولات الشركة العقارية التنصل من مسؤوليتها، مرة بتحميل المسؤولية للشركة المناولة، ومرة بالادعاء أن المسجد والقاعة يقعان ضمن وعائها العقاري، ومرة بالزعم أن العملية قانونية. لكن الحقيقة الساطعة – والتي وثّقتها بلاغات الكلية والرئاسة وشهادات العارفين بحالا الأمور– هي أن الوعاء العقاري وما شُيد عليه من المرافق محدد من قبل الدولة منذ سنة 1979، وأن عملية الهدم جرت دون أي ترخيص، وفي توقيت مريب: يوم عطلة، في الصباح الباكر، حتى يؤخذ الجميع على حين غرة. هل بعد هذا يمكن الحديث عن “سوء تفاهم”؟
ثم إن إعلان الشركة استعدادها لبناء مسجد “في مكان آخر” ليس سوى اعتراف ضمني بالنية المبيَّتة، وقد سبق لها أن طرحت هذا المقترح سنة 2021 وقوبل بالرفض، لأن الأمر ليس بيد الجامعة، بل يدخل ضمن صلاحيات الوزارة الوصية التي حددت الوعاء العقاري ووزارة الأوقاف التي موَّلت بناء المسجد.
إن ما وقع ليس سوى وجه من وجوه تغوُّل منطق المال على منطق القانون. فالجامعة مؤسسة عمومية، والمرافق التي دُمرت هي ملك للدولة، وأي عبث بها هو عبث بالسيادة وبهيبة المؤسسات. لذلك، فإن موقف الكلية وجامعة القاضي عياض كان ولا زال واضحا وصريحا في رفضه للمساومات، وفي العزم اللجوء إلى القضاء، موقفٌ سليم وشجاع، ويجب أن يحظى بدعم الجميع.
إنني كأستاذ للتعليم العالي، وكمواطن قبل ذلك، أرى أن حماية الجامعة اليوم هي واجب وطني لا يقل قداسة عن حماية الحدود أو صون الأمن العام. فالجامعة هي حدودنا الرمزية، وأسوارها هي خط دفاعنا الأول عن قيم المعرفة والعقل والحرية.
لهذا، لا بد أن تلتف كل مكونات الجامعة من إداريين وهيئة تدريس وطلبة و كذا المجتمع المدني والإعلام حول هذه القضية، وأن يُرفع الصوت عالياً : “لا لسياسة الأمر الواقع.” … “لا لاستباحة المؤسسات العمومية.” … “لا لتغول المال على حساب القانون.”.
إن انتصار الجامعة في هذه المعركة هو انتصار للعلم على الجهل، وللقانون على الفوضى، وللوطن على مصالح ضيقة عابرة. فخري بالشركة المسؤولة عن هذا الفعل الشنيع أن تبادر دون انتظار أو تماطل إلى إعادة الأمور إلى نضالها قبل الدخول الجامعي على الأبواب فأصوات الاستنكار لم تتوقف بوادر الاحتجاج تتأجج يوما بعد يوم، وتداعياته ذلك الجرم اكبر والمسؤولية فيها تتحملها الشركة المذكورة ومن يواليها من أذرع الفساد. ومن هنا أقول: لن نصمت. ولن نسمح بأن تتحول سابقة هدم مسجد جامعي إلى قاعدة.







