
قبل سنوات فقط، كانت مراكش تتباهى بمساحاتها الخضراء التي بلغت قرابة 13 مترا مربعا لكل مواطن، ما منح المدينة سحرا فريدا وهواء نقيا ومتنفسا طبيعيا لأهلها وزوارها. غير أن هذا الواقع بدأ يتآكل بشكل مقلق، ولم تبق من تلك الصورة سوى أطلال متناثرة فيما تكتسح كتل الإسمنت كل شبر قابل للبناء، ولو كان ملكا عاما أو مجالا بيئيا حيويا.
مراكش اليوم لم تعد كما عهدناها، فقد تحولت إلى لوحة قاتمة، بلا روح ولا لون بعدما تسلم زمام تدبيرها من لا يملكون رؤية تنموية مستدامة، بل فقط شراهة لا تُشبع للاتجار في العقار وهوس ببناء العمارات وخلق التجزءات ولو على حساب جودة الحياة. ما نشهده اليوم ليس فقط تراجعا في المساحات الخضراء، بل مجزرة عمرانية تجرد المدينة من هويتها وتاريخها البيئي.
أسواق تباع فيها الهكتارات كما تباع السلع، ورخص تُمنح بسخاء لبناء مشاريع إسمنتية على أنقاض حدائق كانت بالأمس القريب موطنا لأشجار النخيل والزيتون والليمون. بل حتى المساحات التي صُممت أصلا لتكون متنفسات عمومية، تم إقبارها أو شوهت معالمها بفضاءات هجينة تخلو من الذوق والجمال، لتتحول إلى مشاهد بصرية منفرة لا تليق بمدينة حضرها التاريخ ووشمها الملوك والرؤساء بزياراتهم ومشاريعهم الكبرى.
فماذا لو استيقظ اليوم الملك الراحل الحسن الثاني من قبره؟ بأي عين كان سينظر إلى مراكش التي كانت قريبة إلى قلبه، وماذا كان سيقول عن مستقبل أطفالها الذين حرموا من أبسط حقوقهم في اللعب وسط الخضرة وتحت ظلال الأشجار؟
في إحدى خطبه قال الحسن الثاني بمرارة: “مظاهر المدن بشعة، الحدائق غير موجودة، محلات التسلية للأمهات رفقة أطفالهن غير موجودة، الطفل في صغره إما سيحب الزهور أو سينشأ دون ذوق.” وأكد حينها أن المسؤولية تقع على عاتق المسؤولين في زرع حب الجمال والطبيعة في نفسية الطفل. فماذا عساه يقول لو رأى ما آلت إليه مراكش اليوم؟
العمدة فاطمة الزهراء المنصوري لم تضع هذا البعد في تصورها، ولم تعِ أن الإسمنت وحده لا يصنع مدينة قابلة للعيش، بل يدمر طفولة أجيال بأكملها. الطفل الذي لا يجد متنفسا أخضرا له ولأمه، ولا نافذة طبيعية تطل منها عينيه، هو طفل محكوم عليه بالنشوء في بيئة خانقة. من لم يعرف قيمة الفضاء الأخضر في محيط الطفولة، لا يمكنه أن يشعر بأهمية وجوده. وهذا ما ينطبق على عدد من المسؤولين والمنتخبين الذين وفروا لأبنائهم فضاءات خضراء فاخرة، لكنهم حرموا أطفال مراكش منها.
كيف يمكن لمن نشأ وسط آلاف الأمتار من المساحات الخضراء أن يدرك حجم المعاناة التي تعيشها أسر مراكشية مكتظة في منازل آيلة للسقوط؟ كيف يمكن لمسؤول أن يستوعب مشهد أطفال لا يزالون إلى اليوم يلعبون فوق أكوام من التراب بحي الملاح، نتيجة جرائم عمرانية ارتكبتها مؤسسة العمران تحت أعين سلطة محلية عاجزة أو متواطئة، بين والي سابق ووالٍ بالنيابة لم يحرّكا ساكنا خشية إغضاب معالي الوزيرة العمدة، التي تحيط بمؤسسة العمران التي تقع تحت مسؤوليتها هالة من الصمت المريب رغم تعدد الفضائح.
الزحف الإسمنتي لم يتوقف عند حدود المدينة، بل انتقل إلى الجماعات المجاورة التي كانت تشكل متنفسا طبيعيا لساكنة مراكش لقضاء أوقات الراحة والتنزه. اليوم، يتم ترك الأراضي الفلاحية عمدا عرضة للجفاف، ويُمنع عنها السقي تحت ذريعة ترشيد المياه، بينما الحقيقة تُخفي مخططا جشعا للوبيات العقار المتعطشة لامتلاك الأراضي وتحويلها إلى تجزئات إسمنتية وفيلات فاخرة على عشرات الهكتارات، حيث تُمنح لأصحابها أجود ظروف الحياة البيئية. يكفي أن ننظر إلى مشروع العمدة وإخوتها في تاسلطانت لنفهم كيف تُمنح النعمة لأقلية، بينما يُترك عامة الشعب وأطفالهم أسرى للحجر والتراب.
ماذا كان سيفعل الحسن الثاني لو زار حي الملاح، أو مر بأحياء اجنان العافية والمحاميد، وغيرها من المناطق التي تشهد على بشاعة السياسة العمرانية التي تحولت إلى أداة لهدم الجمال بدل بنائه؟
أمام هذا الواقع القاتم، لا يمكن لمراكش أن تستمر على هذا النحو دون أن تدفع ثمنا باهظا من بيئتها وصحة مواطنيها وكرامة أطفالها. ما يحدث اليوم ليس فقط فوضى في التعمير، بل هو خيانة معلنة لروح المدينة وماضيها، واغتيال لحق الأجيال القادمة في فضاء أخضر وإنساني.
مراكش اليوم بحاجة إلى وقفة حقيقية، إلى من يستحضر وصية الحسن الثاني، ويعي أن بناء المدن لا يكون فقط بالحجر، بل بالروح، بالشجر، وبحماية ما تبقى من الجمال.







