وارسو قلب أوربا النابض زهرة الحرية بألوان الطيف
1043 مشاهدة
في مدينة وارسو يمشي الناس ولا يلتفتون، حتى عندما يهمون بقطع الطريق لا يحتاجون إلى الالتفات فالإشارات المرورية تكفيهم دوران الرقبة جهة اليمين وجهة الشمال. وهم منضبطون لقانون السير الذي تحكمه خطوط وألوان وأضواء ومسارات وممرات لا ينزاح عنها مستعمل الطريق ولا يخرقها الراجل أو يتزحزح عنها الراكب.
وشوارع المدينة فسيحة جدا وبناياتها حديثة عماراتها زجاجية بمعمار عصري مشيد بإسمنت وفولاذ وزجاج لامع، عندما تبرق الشمس تعكس الطوابقُ العاليةُ هالةَ الضياء عند الإشراق، ومع العشي تعكس شفقَ الغروب فيصعدُ الناس إلى سطوح الفنادق يتبادلون النَّخْبَ في مقاصفَ كمعابد الرهبان.
لم تترك وارسو أي شيء للصدفة، كل ما فيها مرتب بما يتوافق والعيشَ فيها. للمعاقين ممراتهم الخاصة، العمي تقودهم المماشي على الطوار إلى وجهاتهم بلا عَنَت والمقعدون كذلك لا يعانون متاعب العبور والمرور والولوج، وإشارات المرور مجهزة بالمنبهات الصوتية التي تتيح قياس الوقت للعبور بطيئا أو مسرعا، وممرات الراجلين مدروسة بعناية خاضعة للتصوير الالكتروني والمراقبة الذكية التي ترتب الغرامات على المخالفين.
ولا يحتاج الزائر والسائح لهذه المدينة إلى جهد كبير في التنقل والتسوق والاستمتاع، رغم معيقات اللغة وطبائع الناس. فما ينقص في وارسو من تعدد لغوي وتفتح شعبي يكتمل بما تتيحه التقنيات المعتمدة التي تضمن السلاسة والانسياب السريع المرن في الخدمات المقدمة والتي تحتاجها السياحة الحديثة بمجرد استعمال التطبيقات الالكترونية في الاقامة والمطعمة وفي النقل والتسوق أو في الزيارات السياحية للمتاحف التي يعوض هاتف ذكي باليد كومة النقود في الجيب لقضاء مأرب فيها.
عندما تتبدد دهشة القدوم، يقبض الزائر على وارسو في كفه بين أنامله كما يمسك بكأس بِلَّوْر، هي غامضة شفافة، وجمالها في ذلك السحر الغامض لألوان الطيف التي تظهر وتختفي من ثنايا تاريخ بولندا الحافل بالمشاهد المؤثرة والمثيرة والوقائع الصادمة الرهيبة التي ما تزال آثارها في النفوس تبرق في عيون البولنديين حزنا شفيفا وفرحا دفينا وخوفا يشفط الدم من الوجوه، وتَحَوُّطا يجفف الشفاه ويمططها حد الالتصاق بالثغر الذي لا يكشف عن جواهره الا لماما.
هي المدينة التي تسرع بخطى حثيثة الى الأمام نحو المستقبل تشد بتاريخها في مواقفه المضيئة التي تواجه به أوربا حينما كان الاوروبيون منهكين بحربهم الكونية الأولى وحاول البولشفيون وضعهم تحت الإبط داخل المعطف الروسي لولا وارسو ومعركتها التي أذاقت لينين وجيوشه مُرَّ الهزيمة عام 1920 فأنقذت العالم وأنقذت الحرية لكنها، أدت الثمن وكتب تاريخُها صفحات سوداء من الخضوع للنظام الشيوعي تحررت منه بالمكابدة في انتفاضات شعبية لا حق لأوربا والغرب في التنكر لتضحياتها وتضحيات البولنديين.
وصدق وهو كذوب من قال إن وارسو هي باريس الثانية، بل هي باريس في كينونتها الثورية التي جعلتها « زهرة الحرية وذهب التاريخ »، هي العاصمة الفاتنة المغرية التي تصدح بالحرية حد أنها لا تتحرج من الألوان القزحية التي ترفعها أعلاما إلى جوار أعلام الدول كأنها تجهر بما لا يعلنه غيرها من العواصم عن مركز القرار المؤثر في العالم.
وما تحتاجه وارسو بعض انفتاح لغوي ييسر التواصل والتخاطب مع اللوحات المبثوتة في كل مكان بلغة محلية فريدة، وما تحتاجه وارسو مرونة السلطات مع المقيمين الشرعيين على أرضها لتبسيط إجراءات الحصول على شواهد الاقامة القانونية؛ وما تحتاجه وارسو دعاية أوسع لسياحتها في الخليج والشرق الاوسط وشمال افريقيا، وما تحتاجه وارسو العِلْمَ بها وبجمالها وتاريخها لمن يجهل أن عاصمة بولونيا هي قلب أوربا وهي نبضها وهي مهوي الفؤاد للمتيمين بالحسن وبالجمال.
(يتبع)