حين تُصبح السياسة مسرحية ومكيافيلي هو المخرج

حين تُصبح السياسة مسرحية ومكيافيلي هو المخرج

 

لو شاءت الأقدار أن يعود نيكولو مكيافيلي إلى الحياة، فلن يحتاج أكثر من جلسة قصيرة في البرلمان المغربي أو تصفح عابر لقناة رسمية حتى يشعر براحة عميقة: فكل ما كتبه في « الأمير » لا يزال يُدرّس… لا في الجامعات، بل في دهاليز السلطة.

خمسة قرون مرت على تلك الوصايا السياسية الباردة، التي خلطت بين الدهاء والحيلة، بين الحكم والمكر، وبين الأخلاق والمصلحة… لكن يبدو أن بعض ساستنا لم يكتفوا بقراءتها، بل حفظوها وأتقنوا تطبيقها، بلمسة محلية لا تخلو من نَفَس انتخابي موسمي.

لا حاجة في هذا البلد لعدسة مكبرة كي تكتشف أن « الحكم » تحول، في كثير من حالاته، إلى مسرحية عبثية. من يُرِد الطاعة لا يطلبها، بل يفرضها. الهيبة هنا ليست ثمرة نضال أو كفاءة، بل تُفصّل كما تُفصّل البذلات الرسمية، وتُنفخ كما تُنفخ الألقاب.

السياسي الجيد ليس من يحمل مشروعاً، بل من يحسن التموقع. لا مكان للرؤية، ولا حاجة للضمير. الأهم هو البقاء… بأي ثمن. الكفاءة تُقصى لأن ذكاءها مزعج، والنزاهة تُحاصر لأن شفافيتها خطيرة، أما الولاء الأعمى… فهو الممر الإجباري نحو المجد الانتخابي.

وكما قال مكيافيلي، « الخوف يدوم أكثر من الحب ». وهنا، تُزرع المسافة مع المواطن كما تُزرع الحواجز الحديدية أمام الوزارات. لا أحد يتحدث للناس، بل عنهم. كل تصريح يبدو أشبه بمحاضرة فوقية، كل وعد مغلف بنبرة تهديد ناعمة، كل مشروع محاط بأضواء أكثر من تفاصيل.

أما المال، فله لغته الخاصة. المواطن، خصوصاً حين يقترب موعد الانتخابات، يُختزل إلى رقم انتخابي، إلى صوت قابل للشراء، أو على الأقل للإغواء.

ومع اقتراب كل استحقاق انتخابي، تنبعث من رماد الخطاب الرسمي تلك الأسطوانة القديمة: نفس الكلمات، نفس الوعود، نفس الوجوه التي اختبرها الناس، وخذلتهم دون أن ترف لها عين. وكأن الزمن يعيد نفسه، لا ليتعلم، بل ليستهزئ.

يبدو أن بعض السياسيين فهموا « فن الحكم » على أنه قدرة على التمويه: مظهر الصرامة يخفي هشاشة القرار، خطاب الثقة يخفي هشاشة الأداء، وورق المشاريع يخفي خواء الأرض. لا سياسة هنا، بل توازنات مؤقتة. لا طموح وطني، بل رغبة محمومة في اقتسام الغنائم. لا تواصل صادق، بل استثمار بارد في الغضب الشعبي، حين يكون مفيداً.

ووسط كل هذا، يظهر المواطن المغربي، وخصوصاً الشباب، وكأنه ارتدى « قبعة الإخفاء » طواعية. يرى، يسمع، يضحك بمرارة، ثم يمضي. ليس لأنه غبي، بل لأنه اكتشف أن التغيير وهم جميل، وأن اللعبة أكبر من أن يكسرها بمفرده. لقد اعتاد أن يُستدعى عند الحاجة، ويُنسى بعد التصويت.

ورغم كل ذلك، لا بد من التذكير بأن مكيافيلي نفسه لم يكن يحتفي بالفساد، بل يحذر من وحش اسمه السلطة حين تفلت من الرقابة. فالسياسة ليست خديعة مستدامة، ولا ذكاء يُقاس بعدد الولاءات. إنها مسؤولية. وإذا كانت هذه الكلمة تبدو غريبة في القاموس الانتخابي المغربي، فربما لأن من يتحدث بها ليس من نفس السلالة التي قرأت « الأمير »… ثم طبّقته علينا.

اخر الأخبار :