
بقلم :حبيل رشيد
يقول عبد الرحمن بن خلدون:
«واعلم أنّ صناعة العلم ليست تكديسًا للألفاظ ولا حفظًا للرسوم، وإنما هي استيلاءٌ للملكة على النفس، وتصرّفٌ في المعاني تصرّفَ المالك في مملوكه، يُميّز به بين الدقيق والجليل، ويهتدي فيه إلى مواضع الخلل ومكامن الزلل. فمن لم يُحكِم أصول النظر، ولم يُدرّب فكره على الارتياض في الاستنباط، بقي حبيس النقل، أسير التقليد، وإن حاز من الدفاتر أضعاف ما حاز غيره.»

تحتضن كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بعين الشق، التابعة لجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، يوم 24 دجنبر 2025، ابتداءً من الساعة العاشرة صباحًا، جلسات علمية مخصّصة لـ مناقشة رسائل طلبة ماستر القانون الدستوري والعلوم السياسية،(الفوج السادس)، في إطار استكمال متطلبات نيل شهادة الماستر برسم الموسم الجامعي 2024 – 2025، وذلك في سياق أكاديمي يتسم بالجدية، والانضباط المنهجي، واستحضار شروط البحث الرصين.
وتندرج هذه المناقشات ضمن السيرورة البيداغوجية المعتمدة داخل الكلية، غير أنها تتجاوز طابعها الإجرائي الصرف، لتغدو لحظة اختبار معرفي حقيقي، يُمتحن فيها البناء الإشكالي للرسائل، ويُقاس مدى استيعاب الطلبة لأدوات التحليل، وقدرتهم على تفكيك الظواهر الدستورية والسياسية بمنأى عن الاختزال أو التسطيح.
ويُعد ماستر القانون الدستوري والعلوم السياسية من التكوينات الجامعية التي راكمت حضورًا نوعيًا داخل الحقل الأكاديمي، بالنظر إلى طبيعة أسئلته، وتشابك موضوعاته، وارتباطه المباشر بقضايا الدولة، والمؤسسات، والفاعل السياسي، والتحولات البنيوية التي يعرفها المجتمع المعاصر. وهو تكوين لا يكتفي بتلقين المفاهيم، بل يراهن على بناء الملكة النقدية، وتعويد الطلبة على مساءلة النصوص، واستنطاق الوقائع، وربط النظرية بالسياق.
وتكشف المواضيع المعروضة للمناقشة عن تنوّع لافت في الحقول المعرفية، واتساع أفق الاشتغال البحثي، إذ تشمل دراسات مقارنة حول ظاهرة الإسلاموفوبيا في أوروبا، من خلال نماذج قانونية وسياسية متعددة، وتحليلًا معمّقًا لـ تحولات الدولة والمجتمع في ظل التحولات الدولية المتسارعة، إضافة إلى أبحاث تتناول أحزاب اليسار وإشكالية الوحدة التنظيمية، والتمكين السياسي للمرأة في التجربة المغربية، فضلاً عن مواضيع مرتبطة بـ الجهوية المتقدمة، والدبلوماسية المغربية في عهد الملك محمد السادس، وتأثير شبكات التواصل الاجتماعي على التوجهات الانتخابية.
وتجري هذه المناقشات تحت إشراف الدكتور رشيد مقتدر، أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، وأحد الأسماء الأكاديمية التي راكمت تجربة علمية وبيداغوجية معتبرة في مجالي القانون الدستوري والعلوم السياسية. وقد أسهم إشرافه العلمي في توجيه الطلبة نحو ضبط الإشكاليات، وتحقيق التوازن بين التأصيل النظري والتحليل التطبيقي، مع الحرص على احترام مقتضيات المنهج، وأخلاقيات البحث الجامعي.
ويتميّز التأطير العلمي الذي يضطلع به الدكتور رشيد مقتدر بنزوعه إلى الدقة والصرامة المنهجية، دون أن ينفصل عن روح الحوار والانفتاح، وهو ما أتاح للطلبة هامشًا واسعًا للاجتهاد، وفي الآن ذاته ألزمهم بحدود الضبط المفاهيمي والانسجام الداخلي للأعمال البحثية. وقد انعكس ذلك على مستوى الرسائل المقدمة، سواء من حيث وضوح البناء، أو تماسك التحليل، أو سلامة الاستنتاج.
وتكتسي مناقشة رسائل الماستر أهمية بالغة، باعتبارها لحظة مفصلية في المسار الجامعي للطالب، تُختبر فيها قدرته على الدفاع عن اختياراته العلمية، وتبرير فرضياته، واستحضار مرجعياته، والرد على ملاحظات اللجان العلمية بلغة دقيقة وحجاج متزن. وهي لحظة لا تُقاس فقط بنتيجتها، بل بما تكشفه من نضج فكري، واستعداد لتحمّل مسؤولية البحث.
كما تمثل هذه المناقشات مناسبة لإغناء النقاش الأكاديمي داخل الجامعة، وفتح أفق للحوار بين الأساتذة والطلبة حول قضايا دستورية وسياسية تفرض نفسها بإلحاح في السياقين الوطني والدولي، في زمن تتكاثف فيه الأسئلة، وتتعقّد فيه التحولات، وتتداخل فيه حدود السياسي بالقانوني، والواقعي بالمفاهيمي.
وتأتي هذه المحطة العلمية لتؤكد، مرة أخرى، الدور المركزي الذي تضطلع به الجامعة المغربية في إنتاج المعرفة، وتكوين النخب، وترسيخ ثقافة البحث المسؤول، بعيدًا عن الاستسهال أو الاستنساخ. كما تعكس حرص كلية العلوم القانونية بعين الشق على الحفاظ على تقاليد أكاديمية راسخة، تجعل من البحث العلمي ركيزة لا محيد عنها في أي مشروع مجتمعي جاد.
ومن المرتقب أن تعرف جلسات المناقشة حضور أساتذة وباحثين وطلبة، إلى جانب مهتمين بالشأن القانوني والسياسي، في أجواء علمية يُنتظر أن تطبعها الجدية، والانضباط، واحترام ضوابط النقاش الأكاديمي، بما يليق بمكانة الجامعة ودورها المعرفي.
![]()







