
في قلب جليز، حيث تنعكس واجهات المصحات الخاصة كالمرايا اللامعة، تقف إحدى هذه المصحات كأنها واحة للشفاء. لافتة أنيقة، مدخل فخم، وممرضون بابتسامات مصطنعة… كل شيء يوحي بالثقة والاحتراف. لكن خلف الأبواب الزجاجية، تكمن حكاية مختلفة، حكاية عن تجارة مغلّفة بالطب، وصفقات تُعقد تحت عباءة القسم. في زاوية معتمة من نظامنا الصحي المتداعي، تسكن قصص لا تُروى عن وجع مضاعف، ليس فقط ألم المرض، بل وجع الاستغلال. إنها مصحات خاصة، تزين جدرانها شعارات الرحمة والعناية، بينما في باطنها تُدار صفقات تحت الطاولات، حيث يصبح المريض مشروعاً تجارياً، والفحص سلعة، والتحاليل وسيلة لرفع الفاتورة، لا لإنقاذ الأرواح. هنا لا يُقدَّر الألم، بل يُقاس الرصيد.
يتجه كثير من الناس إلى هذه المصحات الخاصة بدافع الأمل، والاعتقاد بأنها تقدم رعاية أفضل، وهربًا من واقع المستشفيات العمومية التي أصبحت مرادفًا للاكتظاظ، وانعدام الموارد، وتأجيل المواعيد. المصحة تبدو في ظاهرها بديلاً أنيقًا، نظيفًا، سريعًا… لكنها في كثير من الحالات تتحول إلى فخ، مغلف بابتسامات الموظفين، وأردية الأطباء البيضاء، لكنها لا تخفي حقيقة أن المال هو المعيار الأول والأخير.
تحكي “أم ياسين”، والدمع في عينيها، عن ابنها الذي دخل إحدى هذه المصحات بعد أزمة صحية مفاجئة. دخل على قدميه، وخرج محمولاً إلى مثواه الأخير، ليس بسبب قسوة المرض، بل بسبب “الاجتهاد التجاري” لفريق طبي لم يرَ فيه سوى فرصة لرفع الفاتورة. عشرات التحاليل، فحوصات بالأشعة، استشارات متكررة مع “خبراء”، وكل ذلك دون نتائج حقيقية أو توضيح.
قالت وهي تشهق من الألم: “قالوا لي: نحتاج إلى المزيد من الفحوصات. كل يوم تحليل جديد. كل يوم فاتورة أكبر. لم أكن أفكر في المال، أردت فقط أن يعيش… لكنهم لم يريدوا له ذلك، أرادوا فقط رصيدي البنكي.”
ما الذي يدفع طبيبًا أقسم ذات يوم أن يصون الحياة، أن يتحول إلى تاجر؟ هل هي منظومة متهالكة فتحت له الباب دون رقيب؟ أم جشع فُتح له الطريق بلا حسيب؟ في هذه المصحات، يتحول المريض إلى ملف يحمل رقمًا، ويُعالج بقدر ما يستطيع أن يدفع، لا بقدر ما يحتاج جسده المنهك من عناية.
يحكي “الدكتور م.ع”، وهو طبيب سابق انسحب من العمل في إحدى هذه المصحات، قائلاً: “طُلب مني أن أكتب تحاليل غير ضرورية فقط لإدخال المريض إلى مراحل علاجية أكثر تكلفة. رفضت، فتمّ استبعادي من الطاقم. من لا يخضع للمنظومة، يُقصى.”
في هذه المؤسسات، قد تُجرى فحوصات متكررة لمريض لا يحتاجها، فقط ليبقى على السرير يومًا إضافيًا. وقد يُمنع من الخروج حتى تُستكمل “الباقة الطبية”. أسرةٌ تُملأ، وآلاتٌ تعمل، والعداد المالي لا يتوقف. كل ذلك يحدث دون رقابة صارمة، دون تدقيق حقيقي، وكأن حياة الإنسان أصبحت مسألة حسابية فقط.
من يتحمل مسؤولية هذا الانحدار؟ هل هي الوزارة التي لا تراقب؟ هل هم الأطباء الذين خلعوا أخلاق المهنة؟ أم نحن، الذين نصمت عن هذا الواقع؟
المرضى لا يطلبون المعجزات، فقط الرحمة. أن يُعاملوا كبشر لا كأرقام. أن تُعالج آلامهم لا أن تُستنزف أرصدتهم.
في زمن كهذا، يصبح السؤال الأهم: من يحمي المواطن من مصحات تحترف الموت البطيء؟ من يحاسب من تاجر بقسم أبقراط؟ ومن يعيد للطب روحه، وللطبيب ضميره؟




