
بقلم :حبيل رشيد.
يقول أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: «اللغةُ أداةُ العقل، ومفتاحُ البيان، وبها تُعرفُ مراتبُ الفهم، وتُوزنُ مقاديرُ العقول».
في لحظةٍ تربويةٍ مشحونة بالدلالة، ومشبعة بالأسئلة العميقة حول المصير اللغوي والثقافي للأجيال الصاعدة، اختارت مؤسسة اقرأ الخاصة بمدينة ابن أحمد أن تجعل من تخليد اليوم العالمي للغة العربية فعلاً تربويًا حيًّا، لا احتفالًا عابرًا ولا طقسًا شكليًا يمرّ في رزنامة المناسبات. فكان تنظيم مائدة مستديرة تربوية تحت عنوان «الآليات التربوية لتعميق الوعي بأهمية اللغة العربية والاعتزاز بها» تعبيرًا صريحًا عن وعي مؤسساتي بأن اللغة ليست مادة تُدرّس فحسب، بل رؤية تُغرس، ونسقٌ قيميٌّ يُبنى، ومجالٌ رمزيٌّ تُصاغ داخله ملامح الانتماء والهوية.

هذا اللقاء، الذي التأمت حوله نخبة من الأطر التربوية، لم يكن مجرد جلسة تداولية لتبادل الرأي، بل فضاءً للتفكير الجماعي المنظم، حيث تداخل البعد البيداغوجي بالبعد الثقافي، والتحليل التربوي بالتأمل الفلسفي في موقع اللغة العربية داخل المدرسة وخارجها. وقد جاء انسجامه مع شعار المناسبة «من أجل أجيال متحكمة ومعتزة بلغتها العربية» ليمنحه بعدًا استشرافيًا، يتجاوز منطق التشخيص إلى منطق البناء، ومن رصد الأعطاب إلى اقتراح الآليات.

وإذا كان لأي فعل تربوي أن يكتسب قيمته من جودة تأطيره، فإن هذا اللقاء قد حظي بتأطير نوعي راقٍ من طرف الأستاذة هدى نادري، مفتشة تربوية للسلك الابتدائي، التي لم تتعامل مع اللغة العربية بوصفها موضوعًا تقنيًا محضًا، بل باعتبارها رافعةً مركزية لتشكيل الوعي، وأداةً لبناء التفكير، وجسرًا للعبور نحو باقي المعارف. لقد بدا تدخلها محكم البناء، متدرج الحجاج، متوازنًا بين النظرية والممارسة، حيث استحضرت الإكراهات الواقعية التي تواجه تدريس العربية، دون أن تسقط في خطاب التذمر، وفتحت في الآن ذاته أفقًا عمليًا لتجاوزها عبر آليات تربوية واقعية قابلة للتنزيل.
انطلق النقاش من مسلّمة جوهرية مفادها أن إشكال اللغة العربية في المدرسة ليس إشكال محتوى بقدر ما هو إشكال تمثل. فاللغة التي لا تُحبّ لا تُتقن، والتي لا تُحاط بهالة من الاعتزاز الرمزي، تظلّ في وعي المتعلم لغة واجب لا لغة انتماء. ومن هنا تبلورت فكرة مركزية داخل المائدة المستديرة، قوامها أن ترسيخ مكانة العربية يبدأ من إعادة الاعتبار لها داخل الممارسة الصفية اليومية، عبر جعلها لغة تفكير، لا مجرد لغة إجابة، ولغة تعبير حر، لا لغة قوالب جامدة.
وفي هذا السياق، تم التأكيد على أن الوعي اللغوي لا يُبنى عبر الشعارات، بل عبر تفاصيل دقيقة: طريقة المدرس في مخاطبة المتعلمين، اختياراته المعجمية، نماذج النصوص المقدمة، طبيعة الأسئلة المطروحة، ومجال الحرية الممنوح للمتعلم كي يجرّب لغته ويخطئ ويتعلم. فالعربية التي تُقدَّم بوصفها لغة قادرة على استيعاب العالم، وتحليل الواقع، والتعبير عن الذات، هي العربية التي تستحق أن تُحبّ وتُتقن.
لقد أبانت المداخلات عن وعي متقدم بأن الانفتاح على اللغات الأخرى لا ينبغي أن يتم على حساب اللغة العربية، بل من داخلها. فالتمكن من اللغة الأم هو شرط جوهري للانفتاح الواعي والمتوازن على باقي اللغات، لا نقيضًا له. وهذه الفكرة، التي تشكّل إحدى ركائز الرؤية التربوية الحديثة، حضرت بقوة في النقاش، حيث تم التأكيد على أن التعدد اللغوي لا يكون مثمرًا إلا إذا كان مؤسسًا على قاعدة لغوية صلبة.
وتندرج هذه المبادرة في عمق الرؤية التي تتبناها مؤسسة اقرأ الخاصة بمدينة ابن أحمد، رؤية تجعل من اللغة العربية محورًا ناظمًا للمشروع التربوي، ورافعة أساسية للتعلم، وأداة لبناء شخصية المتعلم المتوازنة، القادرة على الجمع بين الأصالة والانفتاح، وبين الجذور والآفاق. فالمؤسسة، وهي تحتفي بثلاثين سنة من العطاء، تؤكد مرة أخرى أن تميز المدرسة لا يُقاس فقط بنتائجها الرقمية، بل بقدرتها على إنتاج معنى، وبناء وعي، وصياغة علاقة صحية بين المتعلم ولغته.
ولم يكن الشكر الذي خُتم به اللقاء مجرد إجراء بروتوكولي، بل اعترافًا مستحقًا بالدور الذي اضطلعت به الأستاذة هدى نادري في إنجاح هذا الموعد التربوي، وبالجهد الجماعي الذي بذلته الأطر التربوية المشاركة، إيمانًا منها بأن الدفاع عن اللغة العربية هو في جوهره دفاع عن المدرسة، وعن العقل، وعن المستقبل.
هكذا، غادرت المائدة المستديرة حدود المناسبة، لتتحول إلى لحظة وعي، وإلى رسالة تربوية مفادها أن العربية لا تحتاج إلى من يرثيها، بل إلى من يفهمها، ويؤمن بها، ويعيد إليها مكانتها في الفعل التربوي اليومي. وفي زمن تتسارع فيه التحولات، تظل اللغة العربية، إذا أُحسن التعامل معها، قادرة على أن تكون وعاءً للمعرفة، وفضاءً للحرية، وأفقًا للكرامة الثقافية.
![]()







