
تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، وفي أفق ثقافي يزدهي بالمعنى قبل الزينة، وبالدلالة قبل الاحتفال، انطلقت ليلة أمس فعاليات الافتتاح الرسمي للدورة الثامنة عشرة من المهرجان الوطني للزجل، بتنظيم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل، وبتنسيق مع جهة الدار البيضاء–سطات، في مشهد ثقافي بدا أشبه بموعد بين الذاكرة الشعبية والرهان المؤسسي على صون التراث اللامادي. افتتاح لم يكن طقسًا بروتوكوليًا عابرًا، بل لحظة كثيفة الرمزية، تُعلن أن الزجل لم يعد هامش القول، بل صار في صدارة المشهد الثقافي الوطني.

في هذا السياق، كان حضور الفنان الشرقي السروتي في التقديم والتنشيط أكثر من دور تقني؛ كان حضوره امتدادًا لمعنى الزجل ذاته. السروتي، بصوته المجبول على نبرة القرب، وبأدائه الذي يمتح من وجدان الناس قبل معاجم البلاغة، بدا كمن يقود الجمهور لا إلى فقرات المهرجان فقط، بل إلى ذاكرة مشتركة، إلى حكاية مغربية طويلة مع الكلمة المنطوقة، مع الشعر الذي وُلد في الأسواق، وفي الحقول، وفي ليالي السمر، ثم شق طريقه إلى المسارح والمنصات الرسمية دون أن يفقد روحه الأولى.

الافتتاح حمل في تفاصيله إشارات واضحة إلى التحول العميق الذي يعرفه الزجل المغربي اليوم؛ من تعبير شفهي كان يُنظر إليه طويلًا باعتباره أدبًا غير مكتوب، إلى جنس إبداعي معترف به، تُحتفى به المؤسسات، وتُخصص له المهرجانات، ويُدرج في النقاشات الأكاديمية. هذا التحول لم يكن وليد الصدفة، بل ثمرة تراكم نضالي لزجالين آمنوا بأن الكلمة الدارجة قادرة على حمل القضايا الكبرى، وأن الشعر لا يُقاس بلسانه، بل بقدرته على ملامسة الإنسان.
الشرقي السروتي، وهو يتنقل بسلاسة بين تقديم الفقرات، كان يُجسد هذا المعنى بوعي فني لافت. لم يكن يكتفي بالربط بين اللحظات، بل كان يُحمّل كلماته شحنة دلالية تجعل من التقديم ذاته فعلًا إبداعيًا. لغة تجمع بين الطرافة والعمق، بين البساطة والذكاء، تُراهن على إيصال المعنى دون استعراض، وعلى الإقناع دون ادعاء. بدا واضحًا أن الرجل لا يقدّم المهرجان من الخارج، بل من الداخل، من موقع من يعرف الزجل لا بوصفه فنًا فقط، بل باعتباره موقفًا ثقافيًا وانحيازًا للناس.
أما فضاء الافتتاح، فقد عكس هو الآخر هذا التوازن بين الرسمي والحميمي. أضواء مدروسة، جمهور متنوع، حضور وازن لفاعلين ثقافيين وفنانين وزجالين من مختلف ربوع الوطن، في مشهد يُؤكد أن الزجل لم يعد حكرًا على نخبة بعينها، بل صار ملكًا جماعيًا، لغة مشتركة تتقاطع عندها التجارب واللهجات والمرجعيات. كان الحضور الجماهيري لافتًا، ليس من حيث العدد فقط، بل من حيث التفاعل، وكأن الجمهور جاء لا ليُشاهد، بل ليُشارك، ليُصغي إلى ذاته عبر أصوات الزجالين.
الدورة الثامنة عشرة من المهرجان الوطني للزجل، كما بدا من افتتاحها، لا تراهن على التكرار، بل على التجديد داخل الوفاء. وفاء لروح الزجل الأولى، وتجديد في طرق تقديمه، في انفتاحه على قضايا الراهن، وفي قدرته على محاورة الأسئلة الاجتماعية والثقافية دون أن يفقد نكهته الشعبية. وهذا ما جعل من الافتتاح لحظة تأسيسية لباقي الفعاليات، رسالة واضحة مفادها أن الزجل اليوم ليس مجرد احتفاء بالماضي، بل استثمار في الحاضر واستشراف للمستقبل.
حضور الشرقي السروتي في هذه الليلة لم يكن تفصيلاً عابرًا في برنامج المهرجان، بل علامة دالة على اختيار واعٍ لشخصية قادرة على حمل هذا الرهان. فالسروتي، بما راكمه من تجربة فنية، وبما يتمتع به من قبول جماهيري، وبما يملكه من حس لغوي مرهف، يُمثل جسرًا بين الأجيال، بين الزجل كما كان والزجل كما يُراد له أن يكون. هو صوت يعرف كيف يُصغي قبل أن يتكلم، وكيف يمنح الكلمة وزنها دون أن يُثقلها.
في النهاية، يمكن القول إن الافتتاح الرسمي للدورة الثامنة عشرة من المهرجان الوطني للزجل لم يكن مجرد إعلان عن انطلاق تظاهرة ثقافية، بل كان بيانًا ثقافيًا مكتمل الأركان. بيان يُؤكد أن المغرب، وهو يرعى فنونه الشعبية في أعلى مستوى من العناية الرمزية، إنما يُراهن على ثقافة قريبة من الناس، نابضة بلغتهم، ومتصالحة مع ذاكرتهم. وفي قلب هذا البيان، كان الشرقي السروتي حاضرًا، لا كمُنشّط فقط، بل كصوت يُذكّرنا بأن الكلمة حين تخرج من القلب، تجد طريقها إلى الوطن.
![]()






