
مشهد آخر يضاف إلى اللوحة السوداء التي تحولت إليها مراكش، المدينة التي كانت تلقب بالحمراء قبل أن تبهت ألوانها تحت وطأة الفوضى والعبث، وتتحول إلى فضاء تتسع فيه رقعة الإهمال والتخريب. ما يقع اليوم وسط صمت مطبق، ليس مجرد تفاصيل عرضية، بل حلقة من مسلسل متواصل عنوانه التدمير الممنهج لموروث بيئي وتاريخي استثنائي.

في قلب هذه الصورة القاتمة، يحتضر نخيل مراكش، الرمز الطبيعي الذي شكل عبر قرون جزءا لا يتجزأ من هوية المدينة وروحها. هذه الثروة البيئية الفريدة تتعرض يوميا لهجوم صامت بفعل الإلقاء العشوائي لمخلفات البناء والتوسع العمراني الفوضوي الذي يغزو المساحات المصنفة دون وازع قانوني أو رادع أخلاقي. أكوام الردم والنفايات تلتهم أرض النخيل بصمت، فيما تتغاضى السلطات، ويصمت المسؤولون، ويغيب التدخل الحازم، لتتحول هذه الجريمة البيئية إلى أمر واقع خطير.

لكن الأخطر من كل ذلك أن ما يدمر اليوم عن سبق إصرار هو الأرض التي تتربص بها مافيا العقار، وهي تنتظر لحظة الجفاف والموت البيئي، لتظهر فجأة بمشاريعها المعدة سلفا. لوبيات العقار، أصحاب الأيادي الطويلة وآكلي الأراضي، يترقبون بصبر انهيار هذه المساحات الخضراء، وحين تموت النخيل وتتشقق الأرض، تنطلق شهية هذه المافيات وتبدأ عملية التخطيط بهدوء، تحت مسميات مخادعة مثل تحسين المظهر والمصلحة العامة.

ثم تُخصص لجنة استثنائية، ويُمنح المشروع غطاء رسمي، وتُصفق له الحكومة، ويُباركه رئيسها، ليُحوَّل في نهاية المطاف إلى مشروع استثماري خاص يخدم حفنة من المنتفعين دون أدنى اعتبار للبعد البيئي أو التاريخي أو الاجتماعي. التوسع العمراني غير المضبوط، وتجاهل قوانين التهيئة، والتقاعس في التصدي للعبث، كلها عوامل تغذي هذا المسار المدمر وتجهز على ما تبقى من الذاكرة البيئية لمراكش.

مدينة النخيل أصبحت مسرحا مفتوحا لجريمة بيئية مكتملة الأركان، ضحيتها الأولى هوية المدينة وثقافتها ورئتها الطبيعية. فهل ننتظر إلى أن تُقتلع آخر شجرة نخيل حتى نرفع الصوت؟ أم أن الوقت قد حان لفتح تحقيق شفاف ومساءلة كل من ساهم بصمته أو تواطئه في هذا الخراب البيئي؟ إنقاذ نخيل مراكش لم يعد ترفا بيئيا بل مسؤولية جماعية لا تحتمل المزيد من التأجيل.

![]()







