رحيل الدكتور مستاوي.. من أعماق جبال الأطلس إلى صدارة البحث العلمي العالمي

فقدت الإنسانية ومعها الأوساط العلمية الدولية في الأسبوع الأخير من يونيو 2025 واحدا من ألمع العقول التي أنجبتها المناطق القروية بالمغرب، يتعلق الأمر بالعالم الجليل الدكتور محمد مستاوي، ابن دوار مكزارت المنتمي لقبيلة إداوزدوت بجماعة النحيت، إقليم تارودانت.
الراحل الذي رأى النور سنة 1966 وسط بيئة قروية بسيطة، نشأ في كنف جبال الأطلس الصغير، حيث صاغت الطبيعة القاسية والتضاريس الصعبة شخصيته وصقَلت عزيمته. هناك، بين مسالك القرية وتحديات الحياة اليومية، تشكلت لديه إرادة التحدي والسعي نحو التميز.
بعد أن أنهى دراسته الجامعية في تخصص الفيزياء بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، قرر مستاوي أن يشق طريقه في مجال البحث العلمي على المستوى الدولي. اختار فرنسا محطة أولى في هذا المسار، وهناك، بعد سنوات من العمل والاجتهاد، حصل سنة 1995 على شهادة الدكتوراه في علوم الغلاف الجوي من مدرسة البوليتكنيك بجامعة باريس XII، من خلال أطروحة علمية متميزة تناولت « تأثير موجات الجاذبية والبنية الدوامية القطبية على تقلبات الأوزون ».
تميزه الأكاديمي مكنه من شغل منصب باحث مشارك في ديناميات الأرصاد الجوية بإحدى أبرز المؤسسات العلمية بفرنسا، قبل أن ينتقل مطلع الألفية الجديدة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث انضم إلى مختبر علوم المحيطات بجامعة كاليفورنيا، ثم التحق بجامعة أريزونا كعالِم رئيسي في مجال استشراف التغيرات المناخية.
وقد خصت جامعة أريزونا فقيدها بكلمات مؤثرة عبر موقعها الرسمي، واصفة إياه بـ »الباحث الرئيس في الاستشراف العالمي »، وهو اعتراف صريح بقيمة إسهاماته العلمية وريادته في مجال نمذجة المناخ العالمي. فقد كان مستاوي من القلائل على مستوى العالم الذين تمكنوا من توظيف الرياضيات المعقدة لتفسير تقلبات الغلاف الجوي ورسم سيناريوهات مستقبل المناخ، وهو المجال الذي أصبح اليوم من أبرز التحديات العالمية.
ليس بالأمر الهين أن ينجح شاب قادم من قرية جبلية نائية في فرض اسمه داخل كبرى الجامعات الأمريكية ومراكز القرار العلمي، وليس من المعتاد أن يكون ابن دوار مكزارت ضمن الأسماء المرجعية التي يُستشهد بها عند الحديث عن مستقبل الأرض ومصير المناخ العالمي.
برحيل الدكتور مستاوي، يخسر العالم شخصية علمية استثنائية، ويخسر المغرب أحد أبنائه الذين رفعوا رايته في المحافل الدولية. غير أن هذا الرحيل يشكل أيضا رسالة أمل قوية، تؤكد أن العقول اللامعة لا تُقاس بمكان الميلاد، وأن القرى المغربية قادرة على إنجاب علماء وباحثين يساهمون في تغيير ملامح المستقبل.
نتقدم بخالص التعازي إلى عائلته وأصدقائه وكل معارفه، وإلى قبيلته ودواره الذين فقدوا ابنهم البار، فيما ربح العالم اسمًا سيظل محفورا في ذاكرة البحث العلمي وقدوة ملهمة لأجيال صاعدة.
من قلب جبال الأطلس خرج من يحمل للعالم مفاتيح الغد، ومن رحم المعاناة بزغ نور العلم ليضيء طريق المستقبل.