رحم الله زمن الجرائد
1068 مشاهدة
لطالما راودني القلم على الانصياع لجاذبيته الفكرية في مواضيع شتى، مسامَرة أو حتى مجامَلة. لكن أن ينزع منك موضوع ما أو حادث ما أو خاطرة ما هذا العزوف ثم تنساق وترتمي بين أحضان الورقة، ثم الكتابة، فهذا أمر غاية في الإحساس بالهم الواقعي والألم النفسي، وذلك لما للخواطر من انفعالات وجدانية قد تُفجر بركانا من الحروف والكلمات كانت إلى عهد قريب ساكنة خامدة تتماهى بين روتينيات العيش اليومي بمختلف تقلبات روافده الاجتماعية والسياسية والثقافية.
ولعلني آثرت هذا الموضوع في خضم ذاك الروتين اليومي في منتصف العطلة الصيفية، وما يرافقها من تنقلات وأسفار وزيارات عائلية ولقاءات حميمية، تتخللها أحيانا فراغات زمنية تُعوض أحيانا بممارسة بعض الرياضات أو الجلوس في المقهى على غير العادة أو المطالعة والكتابة، إن كان لهذين الأخيرين نصيب فيما تركته الهواتف الذكية أو الألعاب الإلكترونية
شاءت الأقدار أن يُتيرني هذا الموضوع وأنا في العطلة الصيفية بمدينة كازابلانكا ذات الثلاثة مليون نسمة، أُجامل روتينها اليومي بين العائلة والمقهى والفضاءات الخضراء والبحر، وزيارة بعض الأماكن السياحية، لكن في صبيحة أحد أيام الأسبوع، شدني الحنين والشوق إلى الجرائد، وتذكرت صحف الزمن الجميل، كجريدتي العلم الثقافي، وأنوال الثقافي، وغيرها من الصحف… التي كانت تُخصص نهاية كل أسبوع عددا خاصا لكل ما هو ثقافي صرف
خرجت أبحث عن ضالتي، لعلني أجد ما أسُد به رمق ذاكرتي وأروي به ضمأ الحنين لزمن الجرائد وأملئُ به فراغ أوقاتي وأُكسر به نسق روتيني اليومي. بحث عن كشك الجرائد، سألت أحد البقالة وتبسم ضاحكا في جهالة للموضوع، تابعت المسير واستوقفتُ أحد الشباب، لامستُ فيه الوقار والإرشاد والنعت الصحيح للكشك، أجابني في ثقة ـ لن تجد هنا أي محل للجرائد ـ وزاد ضاحكاـ يبدو أنك لست في المكان المناسب، ليس فيه مكان للجرائد. ولك ان تسأل ذلك البقال العصري ـ. تابعت تجوالي دون أثر للجرائد، إلى ان أثار انتباهي محل للخدمات المتنوعة (تسهيلات) تقدمت وسألت أحد الشباب بالمحل. أعندكم الجرائد؟ أجابني: ــ لا، لا نبيع الجرائد-. هل لك ان تدلني على من يبيعها هنا؟ أجاب بكل ثقة وتلقائية – اسأل أحد محلات العقاقير (الدروكري) -، تبسْمتُ وسألت، وهل يبيعون حتى الجرائد؟ أجاب: نعم سيدي، ستجدها لقد شاهدتها عندهم. انصرفت مندهشا ومتبسما تارة، ومستغربا ومتسائلا تارة أخرى. كيف لبائع عقاقير (دروكري) أن يبيع الجرائد؟ ما وجه التشابه بين هذا وذاك.؟
تابعت خُطاي في الشارع الطويل أبحت عن هذا البائع العجيب في زمن العجائب، قد يكون الأمر عاديا وطبيعيا، خصوصا في مدينة العاصمة الاقتصادية، ففيها تجتمع المتناقضات، حتى النصب والاحتيال، وهو ما فطنتُ إليه وعدلت عن فكرة البحث عن هذا المحل، فقد تكون مكيدة لغريب يبحث عن الغرابة في هذا الحي. واتجهت لأحد المقاهي لعل صاحبها يدلني على كشك الجرائد، والعادة أنهم يُقدمون الجرائد لزبنائهم كل صباح. سألت النادل، من فضلك أين تباع الجرائد في هذا الحي؟ تبسم هو الآخر تم أجاب قاطعا جازما: ـ لن تجدها هنا لا أحد يشتريها للقراءة، فقط الزبناء يملؤون الكلمات المتقاطعة وما شابه ثم يضعونها جانبا، أتريد جريدة ألأمس؟ ناولني الجريدة، وانصرفت بعدما رفض أخد ثمنها أو نصفه على الأقل بحُكم قدمها. تأبْطتُها وانصرفتُ مُنشرح الصْدر وكأني ظفرتُ بكيس حنطةِ في زمن القحط والجفاف.
عدتُ أدراجي إلى المنزل بخُفي حُنين، لم أكن أتصور أن اقتناء جريدة ما، سيتطلب كل الجهد وهذه المعاناة، بين المحلات التجارية المتنوعة والمقاهي المختلفة، والتجوال بين الباعة المتجولين بالعربات والراكنين على جنبات الشوارع. كل شيء موجود في هذا الحي إلا محلات بيع الجرائد، منعدمة أو شبه مُنعدمة.
في مغامرتي هذه، لاحظت أن الجميع يبتسم عند السؤال عن الجريدة، والكل يتعجب مندهشا من سماعها، والبعض الآخر يتنكر ولا يريد الإجابة، يتنصْل ويتراجع خلفا، أتراني أسأل عن شيء غريب من عالم آخر؟ أتراني أبحث عن صنف من الممنوعات؟
هكذا أصبح اقتناء الجريدة صعبا للغاية ، يتطلب منك جهدا مضنيا وصبرا جميلا ، في زمن العزوف عن القراءة والمطالعة وسط زحمة الهواتف الذكية و الألعاب الإلكترونية، بعدما كان الأمر في غاية السهولة والبساطة أيام الزمن الجميل، حيت الجريدة ضمن أولويات القراء عموما ، تجدها لذى كل الأكشاك وفي المكتبات وعند محلات التبغ وحتى على الأرصفة أحيانا ،وعند الباعة المتجولين بأصناف منها في مواقف السيارات ،وبين علامات المرور، أيام كان للقراءة إدمانا لا منافس له سوى ممارسة الرياضة والكل يتنافس في مطالعة الجرائد كتنافسه في الألعاب الرياضية .
وأخيرا قد تستيقظ صباح يوم من الأيام فلا تجد صحيفة ورقية تملأ نهارك، تبحث فلا تجد سوى أرشيف كبير من الأعداد التي وثقت مراحل زمنية مختلفة مرت على الإنسانية عند هواة جامعي الأرشيف الثقافي.