حقيقة السلطة وثقافة الاحتجاج
1732 مشاهدة
لعل من بين المسلمات الراسخة في تاريخ الفكر السياسي كون السلطة موجودة لخدمة الناس وحمايتهم من الأخطار المحدقة بهم، غير أن الماسكين بها لا يشعرون بأنهم أهل لهذه المهمة المقدسة إلا إذا اتصفوا بصفات يتفردون بها عن سائر الناس. قد لا تكون ثمة أي صلة بين خدمة الناس والتميز أو التعالي عنهم، لكن الحُكام والملوك يصرون على أن يسبلوا على أنفسهم كل أسماء وألقاب الوقار والتبجيل والعظمة، وربما بالغوا في ذلك، فارتأوا أن يسموا الفضاءات العمومية والمؤسسات العامة بأسمائهم؛ هذا إن لم يأخذهم الغرور إلى درجة أن يسموا شهور السنة بأسمائهم، كما فعل الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر؛ أما اتصافهم بالألوهية فهي صفة قديمة قدم الحُكم بين الناس. لكن مهما حمل الحكام والملوك من صفات التعالي والتبجيل والوقار، فإن سلطتهم لا تكتمل إلا إذا اتصفوا بصفات الأسود، وهو ما يحرصون عليه حين يزينون عروشهم بصور الأسد، أو يتخذون من اِسمه نسبا لأسرهم الحاكمة، كما هو الحال بالنسبة للأسرة الحاكمة في سوريا.
عادة ما يعزى ولع التشبه بالأسود إلى مفاهيم القوة والعظمة، والسلطة كذلك لا يمكن أن تأمر وتُطاع إلا إذا كانت فوق الجميع، بل إنها لا تكتمل إلا إذا كان لها الحق في حياة من تسود عليهم، ولذلك فهي تُحدَّد باعتبارها « الحق في الحياة والموت ». بيد أن القوة ليست التفسير الوحيد لهذا الولع، طالما أن السلطة لا تسعى وراء القوة فقط لتحمل الناس على الطاعة، وإنما أيضا للانفراد بمزايا السلطة، وأهم هذه المزايا الانفراد بتناول الطعام، وهي عادة متغلغلة في جسم السلطة؛ وهناك من الملوك من كان يزيد على هذه العادة بإكراه الخدم والحاشية أن يتابعوه وهم واقفون حين يتناول طعامه.
قد يكون طقس الانفراد بتناول الطعام طقسا مشتركا بين أغلب الملوك القدامى، غير أنه اشتهر به ملوك أوغندا على الخصوص، حسب ما يرويه إلياس كانيتي في مؤلفه الجماهير والسلطة، بالقول إن تعبير “الأسد يأكل وحيدا” كان ذائعا بين الأوغانديين؛ ويضيف قائلا إن هؤلاء الملوك كانوا يعاقبون بالموت كل من تأخر في إعداد الطعام، أو سعل أو عطس وهو يقدم الطعام بين يدي الملك. وما يُروى على الملوك الأفارقة يخص الأوربيين أيضا، إذ يُقال إن سوء طهي الطعام لإمبراطورة روسيا آنا إيفانوفنا Anna Ivanovna (1693- 1740)، قد يودي بحياة الطاهي.
لا تقتصر مزايا السلطة على طقوس الإنفراد بتناول الطعام وحدها، وإنما تتعداها إلى اشتهاء الأطباق والأطعمة النادرة وربما المستحيلة، فطلبات الملوك لا تُرد، وعلى المعنيين بإحضار طعامهم أن يسلكوا كل السبل للاستجابة لرغبات أسيادهم، حتى لو تطلب الأمر قطع مسافة خمسين يوما في خمسة أيام، لجلب فواكه طازجة من خراسان (إيران) إلى مائدة السلطان الهندي دلهي محمد تغلق (القرن الرابع عشر)؛ وقد كانت الرسل المكلفة بإحضار هذه الفواكه تتبدل كل ثلث ميل، حسب ما يرويه إلياس كانيتي ضمن المؤلف نفسه. ولك أن تتصور كم هي التكلفة التي يقتضيها إحضار فاكهة من خراسان إلى الهند استجابة لشهية السلطان.
وإذا كانت السلطة داخل الدول الدستورية قد تهذبت نوعا ما بعد ثورات القرن الثامن عشر، فهذا لا يعني أن ولع التشبه بصفات الأسد قد انتهى، ولا أن طقوس تناول الطعام قد ولّت؛ ففي أعرق الدول الديمقراطية لا يزال ملك بريطانيا الحالي تشارلز الثالث، حسب ما أورده جيريمي باكسمان Jeremy Paxman (1950- ..) في كتابه عن الملكية، يتشبث بعادة غريبة في تناول وجبة الفطور، إذ من بين ما يجب أن تتضمنه هذه الوجبة سبع بيضات بدرجات مختلفة من السلق، لكن الملك يكتفي بتناول واحدة فقط. وربما قد تكون عادة تنويع الأطباق والإكثار منها، في عصرنا الحالي، وسيلة لتجنب غضب رجالات السلطة، فمن لم يرقه طبق وجد ضالته في طبق آخر.
لقد وعى الناس قديما بهذه الصلة بين ميل الحكام إلى الاستئساد والانفراد بمزايا السلطة، ولما كانوا لا يستطيعون نزع السلطة من أصحابها، ولا ثنيهم عما هم فيه من ترف وغلوٍّ، ابتدعوا بعض الأساليب الفريدة للاحتجاج، كأن يستغلوا مرور مواكب السلطة أو تجمعاتها لرشق أصحابها بالفاسد من البيض والطماطم، خاصة حينما يعمّ الجوع وتشتد الضائقة بالناس. وقد كان الناس، بلجوئهم إلى هذا النوع من الاحتجاج، يكسبون أمرين هامين؛ أولهما حفظ حياتهم، حيث لم يكن من المعقول أن يُعاقب الجاني بالموت إذا لم يؤذ أحدا؛ والثاني التعبير عن لا مشروعية السلطة، فلا يمكن لمن دُنِّس بالبيض أو الخضروات الفاسدة أن يكون صاحب سلطة مشروعة في نظر الناس؛ وإذا فقد الحاكم مشروعيته، لم يعد إلا لصا ومغتصبا للسلطة، غير جدير ولا أهل بما ينعم فيه من خيرات.
لعله من الصعب الوقوف على اللحظات الأولى لتحول فعل الاحتجاج من حمل المعاول والفؤوس، والتوجه رأسا إلى القصور للقضاء على الماسكين بالسلطة أو إزاحتهم عنها بالقوة، إلى الاكتفاء برشق الحكام بالبيض والطماطم؛ وربما كان أول من تعرض لهذا النوع من الاحتجاج هو الإمبراطور الروماني فسبازيان Vespasian(9 م- 79 م)، حيث رُشق باللفت وسط أعمال شغب بحضرموت (تونس) حينما كان حاكما على إفريقيا تحت إمرة الإمبراطور نيرون Néron (37 م- 68 م). وبعد فسبازيان لا نعرف إن كان هناك من الحُكام من تعرض للاحتجاج بهذه الصورة، لكن سواء وُجد أو لم يوجد، فالظاهرة لم تختف تماما، بل امتدت إلى مجالات أخرى أهمها المسرح، حيث كان الناس يرشقون الممثلين غير المرغوب فيهم بالبيض الفاسد. وإذا كنا نعترف بقيمة وسموّ الأدب المسرحي في الماضي، فقد يكون الخوف من التعرض للرشق بالبيض والطماطم أحد أسباب هذا السمو.
إن ما هو مثير في الاحتجاج بالرشق بالبيض والطماطم، بالإضافة إلى أنه تعبير عن الامتعاض وعدم الرضا، كونه أسلوبا ساخرا يجعل من الضحية أضحوكة للناس وعبرة للآخرين، فهو يكشف في الواقع ما يعمل السياسي على إخفائه بابتساماته العريضة ومظاهره الخادعة. في الواقع، منذ أن هجرت السياسةُ الساحات العمومية وكفّت عن أن تكون مجالا للتداول العلني، ومنذ أن لم تعد المناصب السياسية تُصنع في ساحات الوغى، ابتُدِع في السياسة ما يُسمى بـ »الرأسمال الرمزي ». وهذا الأخير عادة ما يُكتسب في الكليات التي تصنع رجالات القانون، أو من العلاقات العامة التي تنشأ بين الفاعلين داخل المؤسسات الحزبية والنقابية. وإذا كان تاريخ الفاعل السياسي هو تاريخ رأسماله الرمزي، وكان هذا الرأسمال مزيفا أو خادعا، فإنه يتهاوى في رمشة عين بمجرد أن تستهدفه بيضة أو حبة طماطم فاسدة أمام الجموع.
لكن ما دام الرشق بالبيض والطماطم أسلوب سلمي، لا يستهدف إيذاء ضحاياه، فإن الاعتراف به وعدم تجريمه، يمكن أن يكون المعيار الفاصل بين الأنظمة الديمقراطية وغير الديمقراطية، إذ لا ديمقراطية من دون السماح بحرية الاحتجاج، وليس هناك ما هو أسلم وأرقى من الرشق بالبيض والطماطم في فعل الاحتجاج. وإذا كنا لا نعثر، في المجال السياسي، على أي أثر لهذا الاحتجاج منذ الأباطرة الرومان إلى غاية القرن الثامن عشر، حيث تعرضت (حسب ما أورده روشيل بيلوو Rochelle Bilow في مقال تحت عنوان: « تاريخ الاحتجاج بالطعام، من البيض والطماطم إلى فطائر الكعك »، وهو في الأصل باللغة الإنجليزية) بعض الطوائف الدينية البروتستانتية (الميثودية) للرشق بالبيض استنكارا لعقيدتها المبتدَعة؛ وخلال القرن التاسع عشر، حسب الكاتب دائما، تعرض الناشط الأمريكي المناهض لعقوبة الإعدام جون غرينليف ويتير J. Greenleaf Whittier (1807- 1892) بالرشق بالبيض خلال محاضرة له، بكلية الكونكورد بولاية نيو هامبشاير، حول مناهضة الرق بالولايات المتحدة الأمريكية؛ فمعنى ذلك أن الرشق بالبيض والطماطم أسلوب احتجاجي مرتبط بالجموع العامة ذات الصلة بالأحداث السياسية.
إن الصلة الوثيقة بين حرية الاحتجاج والجموع العامة، هي التي تفسر « عولمة » الرشق بالبيض والطماطم وباقي الوسائل التي تستهدف فضح السياسيين وتشويه سمعتهم أمام الناس، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، خاصة داخل الدول التي لا تُسَيّس القضاء للانتقام من المواطنين؛ وربما استعصى علينا عدّ أسماء الرؤساء والسياسيين الذين كانوا ضحية هذا النوع من الاحتجاج؛ وإذا كان آخرهم الملك الحالي للمملكة المتحدة تشارلز الثالث، فقد سبقه إلى ذلك الرئيس الفرنسي الحالي إمانويل ماكرون، وقبل هذا الأخير نيكولا ساركوزي وأنجيلا ميركل وتوني بلير وهيلاري كلينتون وجورج بوش الاِبن، وغيرهم كثر.
هناك في الواقع من وعى بمدى التأثير الذي يحدثه فعل الاحتجاج بالرشق بالبيض والطماطم، فعملَ على تحويل الرشق بالطماطم إلى مهرجان سنوي كما هو الحال بالنسبة لإسبانيا، حيث يحتفل الإسبان كل سنة في الأربعاء الأخير من شهر غشت بما يسمى « لا طوماتينا » la Tomatina . تعود جذور هذه الذكرى إلى سنة 1945، حيث تجمع الناس وسط قرية بينيول Buñolبإقليم فالينسيا لمشاهدة موكب من الموسيقى نظمته سلطات القرية، وفي خضم تدافع الحاضرين فيما بينهم تمّ رشق رجال السلطة بالطماطم احتجاجا على أوضاعهم الاجتماعية، وتكرر الأمر خلال السنة الموالية، لكن هذه المرة تراشق الناس فيما بينهم بالطماطم إحياء للواقعة الأولى، ليصير بعد ذلك مهرجانا سنويا رسميا منذ 1952.
لكن على خلاف الدول الغربية، من الصعب الحديث عن انتشار ظاهرة الاحتجاج رشقا بالبيض والطماطم في دول العالم الثالث، خاصة الأسيوية منها والإفريقية، وربما لا أحد من مواطنيها يجازف بنفسه ليلقي ببيضة أو أي شيء آخر في وجه الحكام؛ لأن السلطات الحاكمة في هذه البلدان لا تتساهل مع أي نقد قد يخدش سمعتها أو مشروعيتها في الحكم، فما بالك برشقها بالبيض والطماطم. وإذا كان هذا هو واقع الحال فيما يخص حرية الاحتجاج في هذه البلدان، فليس من المستبعد أن تُبتدع أشكال احتجاجية بديلة، ولعل أهمها حمل الشارات الحمراء والإضراب عن الطعام، وهو الأسلوب المحبذ لدى النقابات وباقي أطياف المجتمع المدني. أما إذا لم يقتنع أحد بجدوى هذا النوع الجديد من الاحتجاج، فقد لا يبقى أمامه إلا أن يلاقي مصير شهيد لقمة العيش في تونس محمد البوعزيزي.