تفوق الإناث، ظاهرة الغش، الانتحار نتيجة الرسوب، الآباء والأبناء وبالباكالوريا..قراءة سوسيولوجية في حدث الباكالوريا )حوار(
2070 مشاهدة
تعتبر الباكالوريا بحمولتها الاجتماعية وقيمتها الأكاديمية حدثا سنويا تبرز خلاله مجموعة من الظواهر المصاحبة له والتي تشي بالكثير من التناقضات المجتمعية التي تحتاج إلى قراءة متأنية على أرضية علمية، في حوار مع الأستاذة أسماء الكنكي الباحثة في علم الاجتماع والمستشارة التربوية والمرشدة النفسية في مؤسسات تعليمة عمومية نحاول مقاربة « حدث الباكالوريا » من منطلق يزاوج بين التفسير السوسيولوجي والتجربة الميدانية.
بداية ما هي القراءة التي يمكن تقديمها حول حضور الأمهات بشكل كبير في محيط مراكز الامتحان وما يصاحب ذلك من توتر ودموع واحتجاج أحيانا؟
حضور الآباء وخصوصا الأمهات في محيط المؤسسات التعليمية يمكن أن نفسره بمجموعة الإشارات:
أولا هو نتيجة للضغط المجتمعي حول شهادة الباكالوريا، حيث نجد هذه الظاهرة بكثرة في صفوف الآباء الذين يكون أبناؤهم من المتعثرين دراسيا أو متوسطي النتائج، لأن هناك خوفا من الرسوب بالإضافة إلى الضغط المجتمعي، ثم ثقافة المراقبة المتأخرة.
ثانيا باعتباره نتيجة لترسيخ مفهوم خاطئ حول الدعم والمساندة وربطهما بأيام الامتحانات في نهاية العام، فالدعم والمساندة للأبناء مطلوبة من الآباء طوال السنة، من خلال الاهتمام والمراقبة والتوجيه والنصح والاستشارة والكثير من المهارات الغائبة.
الإشارة الثالثة: تتعلق بانعدام الثقة في المؤسسات التعليمية أو سوء التواصل معها، في تجربتي الميدانية مجموعة من المدراء يطالبون الآباء بعدم الحضور يوم الامتحان لأنهم يوترون الأجواء في محيط المدرسة ويزعجون التلاميذ ومع ذلك يحضرون، لأن هناك انعدام للثقة بين المؤسسة التعليمية والأسرة المغربية نتيجة لعديد من الأخطاء التي تراكمت لسنوات طويلة وجعلت الأسر الآن غير مستعدة لأن تنصت أو تستجيب لمطلب المؤسسة التعليمية.
وأخيرا ثقافة الاتكالية عند مجموعة من التلاميذ والناتجة عن أخطاء في التربية التي يكون من مخرجاتها تلميذ مدلل في مستوى الباكالوريا يتصف بالإهمال وقلة، لذلك نجد مجموعة من الآباء حريصين على التواجد في محيط المدرسة يوم الامتحان لكي يضمنوا أن أبناءهم دخلوا للفصل الدراسي واجتازوا الامتحان.
تترافق أجواء الامتحانات أيضا بصورة تروج لها بعض وسائل إعلام عن تلاميذ يشيدون بمن ساعدهم على الغش أو ينددون بمن منعهم عنه باعتباره « حقا » لهم بنسميات ومعجم يحيل إلى انتمائهم إلى الشارع والانحراف أكثر من المدرسة، ما الرسائل التي يجب أن نقف عندها منى هذه الصورة؟
هذا التساؤل يحيل إلى بعدين:
البعد الأول: حضور فئة من الإعلام الأصفر الذي لا غيرة له على الوطن، والذي يقوم بتصيد كلمات وتعبيرات المراهقين الذين لا يراعون الحدود ولا يخافونها ولا يفكرون ببعد نظر كون ذلك الفيديو سيبقى دائما على مواقع التواصل الاجتماعي وسيصبح ملفا أسودا يطاردهم في المستقبل عندما يتمكنون من تغيير مسارهم وأصبحوا أشخاصا ناجحين.
البعد الثاني يرتبط بثقافة الغش وهو موضوع ضخم يحتاج حيزا أكبر للتحدث عنه، لأن التلميذ أصبح يعتبر الغش حقا له، ويسوغه لنفسه بمبررات نفسية وتربوية من قبيل أن المؤسسة التعليمية لا تعطي ما يلزم والأستاذ لم يدرسهم جيدا والمنهج غير مفهوم…وكلها تبريرات تضرب في صدق الرسالة أو المضمون الذي يقدم في المدرسة العمومية.وعموما التلميذ الإتكالي والتلميذ الغير متفوق والتلميذ الكسول يلجأ إلى الغش كحق ويعطيه تبريرا نفسيا حتى لا يحس بأنه يعمل شيئا خاطئا، وبالتالي ثقافة الغش للأسف الشديد يكرسها بعض الأستاذة الذين لا يحرسون، ومن جهة معاكسة هناك فئة أخرى من الأساتذة متشددة جدا، مجرد أن التلميذ يلتفت أو يتحدث مع صديقه يعتبرونه غشا، فمسألة الغش هناك من يكرسها وهناك من يستغلها في ظلم بعض التلاميذ.
بعد إعلان النتائج تكرست في السنوات الماضية ظاهرة تفوق الإناث من حيث « احتكار » أعلى المعدلات، بماذا يفسر هذا التفوق؟
تفوق الإناث تكرس منذ سنوات ليست بالهينة ليس في الباكالوريا فقط ولكن في جميع الأسلاك، للأسف الشديد هناك تراجع لجدية والتزام التلاميذ الذكور، ربما هو نتيجة لتحول مجتمعي، فالأسرة المغربية أصبحت الآن تعطي اهتماما أكثر للفتيات، تشجعهن وتدعمهن وتعول عليهن لينجحن، وفي المقابل الطفل الذكر يأخذ عنه الآباء نظرة سلبية مسبقة بأنه لن ينجح « ما غاديش يطفرها » و بالتالي لا يعملون معه المراقبة أو التشجيع.
من ناحية أخرى الذكور أكثر عرضة للهدر المدرسي بحكم أنهم يتأثرون بالعديد من المؤثرات الخارجية في المحيط والشارع، فالطفل الذكر يستثمر وقته بشكل كبير في اللعب في الشارع، وعلى العكس منه تمضي البنت معظم وقتها داخل المنزل فتنشغل بالدراسة وتبذل فيها جهدها لأنها ترى أن خلاصها في أن تدرس لتنجح لتحصل على عمل لتتمكن من الخروج من ثقافة المحافظة المراقبة من الأسرة.
أنا لا أرى في هذا التقدم تفوقا بقدر ما أعتبره خللا، لأن الأصل أن التلاميذ يجب أن يكونوا في مستوى متقارب جدا إن لم يكن نفس المستوى، ومكمن الخلل في أن الوطن لا يبنى بأحد الجنسين فقط، لا يبنى بتغييب الذكور ولا يبنى بتغييب الإناث، وبالتالي إن كانا نتحدث اليوم عن معدلات تفوق كبيرة جدا عند الفتيات، فغدا سنتحدث عن مناصب الشغل العليا ومناصب العمل الكثيرة التي تشغلها الفتيات، وبالتالي من سيعيل الأسر من سيعيل الأطفال؟ ما سيخلف تلفا في الأدوار وخروجا عن مسارها الطبيعي، الأصل أن الكل يجب أن يكون متفوقا والكل يجب أن تكون له فرص في الحياة، وفي العطاء وفي العمل.
مسألة أخرى أشير لها هو أنه يتم التسويق لهذا التفوق بطريقة عنصرية مرضية في مواقع التواصل الاجتماعي، في السابق عندما كان التفوق في صفوف الذكور كان هناك تحقير للإناث والآن يحصل العكس، الأصل أن أي مجتمع يعتمد على الإنسان سواء كان ذكر أو أنثى في النهضة والتغيير وإحداث أشياء جيدة للوطن، فتكريس خطاب العدوانية والإقصاء والتهميش والاحتقار والضحك والسخرية لن يفيد المجتمع بشيء وسيزيد من تلك المساحة النفسية ما بين الإناث والذكور.
من جانب آخر تسجل كل سنة حالة أو أكثر لانتحار تلميذ بسبب الرسوب في الباكالوريا، هل يمكن تقبل أن يكون الرسوب في الباكالوريا سببا لوضع شباب في بداية العمر حدا لحياتهم؟
الانتحار ظاهرة اجتماعية ونفسية وتربوية تحتاج لأكثر من تحليل من أكثر من زاوية نظر لنفهما، وربطها بنتائج الباكالوريا فقط سيكون تفسيرا قاصرا وغير منطقي، فعلا هناك ضغوطات تؤدي ببعض التلاميذ إلى أن يضعوا حدا لحياتهم بسبب الرسوب، لكن إذا بحثنا في تلك الأسرة وتاريخ العلاقات فيما بينهم كيف يتواصلون وكيف يقيمون النجاح وكيف يقيمون الخطأ وكيف يقيمون الإنسان إذا تعثر سنجد أن هناك مشاكل كبيرة جدا على مستوى التواصل وعلى مستوى الاحترام وعلى مستوى تقدير الذات وعلى مستوى مكان ذلك المراهق داخل المنزل، حينئذ نفهم أن هناك مجموعة من العوامل المحفزة للانتحار وليست نتيجة الباكالوريا هي السبب الوحيد.
التعثر الدراسي أمر حاصل وواقعيا نجد أسرا تدعم المتعثرين والراسبين من أبنائها وتساعدهم وأحيانا يحصل التكرار لأكثر من ثلاث مرات في الباكالوريا فيوجهون التلميذ للتكوين المهنى ومنهم من يسجلونه في مدرسة خاصة، فالرسوب إذن ليس سببا وحيدا ومفسرا للانتحار، قد يكون سببا ضاغطا وداعما للظاهرة لكن ليس هناك من تفسير وحيد لها، مسألة الانتحار ترتبط بتراكمات تربوية، هناك الكثير من الأخطاء التي ترتكب في التربية اتجاه الأطفال الذين يصلون فيما بعد إلى مرحلة المراهقة حيث تنكشف هذه الأخطاء وتصبح نتائجها وأعراضها بادية للعيان، لأن في مرحلة المراهقة يمر المراهق من مجموعة من التحولات النفسية والجسمية والذهنية والاجتماعية والعلاقاتية، ويسعى إلى أن يضع نفسه في عالم خاص به لكن يجد أن الأسرة تتدخل في اختياراته وأخطائه وتعثراته ونجاحه فيقوم بوضع حد لحياته لينتهي من تلك القيود التي تخنق أنفاسه وتخنق اختياراته ولا تسمح له بمساحة الخطأ، ولا التجربة ولا اختيار طريق مختلف ومغاير.
ما هو التعامل الأمثل للوالدين مع أبنائهم وهم يجتازون الباكالوريا خصوصا، وفي مسارهم الدراسي عموما؟
من الناحية النفسية والتربوية على الآباء أن يحاولوا بجدية تجنب كثرة الأخطاء في التربية، عليهم أن يحاولوا اعتماد الحوار بدل القمع، والحب بدل العنف، وإبداء التعاطف وزرع ثقافة الاعتذار والتغافر، يجب أن يحرصوا تكون هناك مجموعة من المشاعر الإيجابية المكتسبة عند هذا الطفل أو الطفلة، وعندما تسود المشاعر الإيجابية بين الآباء والأبناء تبنى الثقة التي إن وجدت لا يصعب على الأبناء البوح لأهاليهم بتعثراتهم الدراسية وبكل الصعوبات التي يواجهونها، وعندما تغيب هذه المشاعر الإيجابية نجد مشاهد الآباء الذين يصدمون في آخر السنة الدراسية بنتائج أبنائهم السلبية، لأنه لم يكن هناك حوار ولم يكن هناك تتبع طوال السنة، وحل محلهم الخوف، والخوف عندما يسود في العلاقة ينتج المراقبة المرضية التي يحكمها العقوبة لا الدعم، في هذه الحالة يمكن أن نتوقع ظهور مجموعة من الصعوبات في مسألة اجتياز الامتحان مستقبلا.
أما الناحية المهارية، فينبغي إكساب الطفل مجموعة من المهارات الأساسية في العملية التعليمية، ويتعلق الأمر أساسا بتنظيم الوقت وترتيب الأولويات وتنظيم مساحة اللعب مع مساحة الخروج مع مساحة الأكل، فالطفل عندما يعيش في أسرة منظمة يكون الجو محفزا للنجاح، ومن جهة أخرى يجب إدارة استعمال الوسائل الالكترونية بطريقة معقولة، وتجنب الأكلات السريعة التي تحتوي كمية كبيرة من السكريات سريعة الاحتراق التي تؤثر على نموهم الجسدي والدماغي، فالأكل الصحي من الأمور التي يجب أن توفرها الأسرة، ثم الاستعداد المبكر للامتحان وذلك بخلق جو هادئ في البيت يساعد على الدراسة، وتجنب نقاش الخلافات مابين الأبوين أوالمشاكل المادية والاقتصادية للأسرة أمام الأبناء وتدبيرها بشكل ثنائي ما بين الزوجين، فالأسرة تبقى هي الداعمة الأساسية للتفوق الدراسي بنسبة 50 إلى 70 بالمائة.