الهمسة الثالثة : زقاق فيــــــديني
1836 مشاهدة
كانت زخات المطر الندية لا تزال تتناثر على أسقف السيارات المصطفة بالزقاق المغلف بسكون الليل الوثير. وحده عجوز روماني ألف الجلوس مفترشا أريكته الجلدية و هو يداعب كلبه المذلل محتميا بالقرميد الأحمر المتدلي من شرفة البيت. يمكث هنالك لساعات دون كلل مرتديا قميصا رياضيا، وسروالا قصيرا و كأنه يتأهب لخوض مباراة. كنت أخاله مختلا بالنظر لجلوسه المتواصل، و لزيه الرياضي الصيفي في عز شتاء روما القارس. لكن مع توارد الأيام علمت أن العجوز لاعب كرة سابق اعتاد ارتداء الألبسة الرياضية، و قد أصيب بمرض حد من حركيته فبات يقضي سواد يومه مستلقيا على أريكته رفقة كلبه …
غالبية سكان الحي أجانب، مزيج من العرب، والرومان، و بعض الهنود. أزقة ضيقة تنوء بالعربات المتراصة يستحيل معها العثور على مكان شاغر لركن السيارة، فيصير الطواف حول الحي سنة يومية بحثا عن مكان مفقود. بالكاد وقعت على حيز ضيق بمدخل الحديقة المفضية إلى بيتي. ومن فرط ضيقه احتك صدري و وجنتي بباب السيارة بينما كنت أحاول التسلل إلى البيت. غيرت ملابسي ، ثم غادرت باتجاه المقهى .
وانأ أهم بالخروج ،أثار انتباهي جسم أبيض صغير مثبت تحت ماسحة الزجاج بمقدمة السيارة. في البدء لم أعر الأمر اهتماما، لكن فضولي ساقني لتفقده فإذا هو قطعة ورق صغيرة مطوية بإتقان . فتحتها فصعقتني كلماتها التي دونت بلغة إيطالية رصينة مفادها : » أنت سيء التربية » تملكتني الدهشة، و اشتد غيضي، لكني لم أدرك القصد من وراء ذلك الفعل ، وما زاد من حيرتي كوني حديث عهد بالحي ، وليس لي خصومات مع أي كان.
و فيما كانت سيوف الحيرة تنهشني، أجلت النظر في أرجاء الزقاق. حينها تراءى أمامي عجوز بمعطف أسود و قبعة رمادية وهو يسوي ظهره المعقوف متكأ على عكاز خشبي.. رمقته و قد تسمر وسط الزقاق بعدما رمى بعينيه الغائرتين باتجاهي، وصار يتفحصني بنظرات ثاقبة من خلف نظاراته السميكة. فبادرته :
– أ أنت صاحب الورقة ؟
رد بعفوية و هويحاول عبثا ترتيب جسمه المتهاوي :
– أجل ؟
– و لكن ما مناسبة هذا الكلام الجارح ؟
صاح على الفور:
– كيف سولت لك نفسك ركن السيارة بمدخل البيت ؟
فأجبته بثقة مفتعلة.
– البيت بيتي، و السيارة خاصتي، فما ضرك في ذلك.
فرد بانفعال :
– و ليكن، من أين سيمر أهلك و قد أطبقت السيارة على مدخل البيت ….
أحسست بنوع من الضيق ، فأجبته بتوثر شديد:
– و ما شأنك بأهلي ، أنا حر في بيتي .
– صمت لبرهة ، تأملني مليا بقسمات وجهه الرومية الحادة ثم قال :
– اخبرني فقط ،من أين أنت ؟
فأجبته على مضض:
– من المغرب.
فرد من فوره مزمجرا و هو يلوح بعكازه و قد أدبر :
– » ماما ميا ….ماروكينو كالعادة » فلتذهب إلى الجحيم…
ابتسمت، واستحال ضيقي انشراحا. واصلت طريقي باتجاه المقهى و أنا أخمن في حديث العجوز الذي كان محقا، وأراد أن يعلمني نمط التحضر الغربي…