أناقة الرجال في المغرب تصنعها النساء
2683 مشاهدة
الغزل ومنسوجات الصوف مظهر الأناقة في الزي المغربي التقليدي
لم تستطع كل أنواع القماش أن تزيح نسيج الصوف التقليدي أو أن تنافسه في أسواق الملابس المغربية التي ما تزال محافظة على هويتها المتوارثة جيلا من بعد جيل.
وتعرض منسوجات الصوف من الملابس المغربية التقليدية في الأسواق المحلية بأسعار غالية، ومع ذلك يقبل عليها المغاربة الذين لا يقدرون على الاستغناء عن لبسها لاسيما في المناسبات الكبرى والأعياد الدينية والحفلات الرسمية.
منسوجات الصوف صناعة نسائية بامتياز
ويكتسي المغاربة بمنسوجات الصوف وهي أقمشة تكون في أيام القر شتوية خشنة، وتكون في أيام الحر شفافة ناعمة صيفية، وهي للرجال جلباب (الجلابية) وبرنس (سلهام)، وبالنسبة للحريم هي حائك (حايك) الذي التحف به أيضا رجال الأمس في المغرب عند دخولهم على السلاطين أو في (الحرْكة) أو (التبوريدة) وهي حملة قتالية بالبارود على صهوات الجياد أصبحت اليوم فرجة استعراضية، وذلك قبل أن يصبح الحائك من معروضات المتاحف.
ومنسوجات الصوف صناعة اختص بها نساء المغرب، وكانت ربات البيوت يعتبرنها من صميم مهام العناية ببيت الزوجية ورعاية الزوج، وعلى أساس المهارة فيها تقدر مهورهن في الخطبة عند الزواج ويقاس حذقهن الذي يجتذب العرسان للأبكار منهن.
كان النساجات ربات البيوت يصنعن الأغطية والأكسية والأفرشة، وكلها من صوف الغنم (الودحة) التي تتحول بأياد ناعمة إلى جداول من حرير وإلى خيوط من مخامل الضياء، تتحد وتأتلف لتكتب صفحة بيضاء كالشمع عنوانها أناقة الرجال بغزل النساء في فن العيش بالبيت المغربي.
من الصوف إلى القماش قصة عهن في بيت الحذق والمهارة
تقول السيدة مينة الملقبة ب(أمي الفرجية) نساجة من إقليم الجديدة إن النسوة يقمن بعد جز الصوف (الدزازة) بغسلها على ضفاف الغدران والأودية وفق طقوس شعبية خاصة تتخللها الترانيم والأهازيج المصاحبة لحركة الأدرع وبأكفها العصي تخبط الصوف المبللة المشوبة برغوة (تيغيشت) وهي عشبة الصابون التي يبيت فيها العهن ليلة كاملة أو أكثر.
وتضيف أنه بعد أن ينشف الصوف تحت الشمس على الصخر، والنساء حوله يقلبن الحديث كل مقلب كما يقلبن خصلات الصوف من الجهة التي جفت إلى الجهة التي ما تزال رطبة، وينتقين منها ما يصلح للغزل وما يصلح حشوا للمخدات والفراش، يخلصن الصوف مما علق بها على ظهر الخروف من نبات (الحسكة) الشوكي (عملية التنقية).
وتوضح (أمي الفرجية) أنه عندما تتحصل لدى ربات البيوت المغربية صوف نقية مما يصلح للغزل والنسج، يحرصن على خلخلتها بالخلخال وهو مشط كبير طويل الأسنان من خمسة أسنة كالرماح، حتى تتماسك الصوف وتتداخل في بعضها ثم تسلم الصوف المنفوشة إلى (القرشال) وهو قبضتان خشبيتان من صفحتين انغرست في باطنيهما مسامير رهيفة كأسنان اللبان تفرك نفشات الصوف العالقة بالمسامير فركا لا تجد منه فكاكا سوى بمهارة وحذق المرأة المغربية الممسكة بقبضتي القرشال في حركة الجيئة والذهاب.
وتؤكد السيدة فاطمة نساجة لدى مجمع الصناعة التقليدية بمراكش في تصريح مماثل أنه بعد أن تأخذ نفشة الصوف شكلا مربعا على هيئة القرشال وتسمى (الطعمة)، تباشر المرأة عملية غزل (الطعمة) بيديها الاثنتين بواسطة المغزل الكبير(المغزل) تدوره على ركبتها اليمنى ورأسه إلى الأرض بينما تمسك بالصوف التي يحولها دوران المغزل إلى خيط مفتول تتحكم في درجة سمكه مسافة اليد اليسرى عن محور (المغزل) وقوة الجذب نحو الأعلى، ويستعمل الخيط المفتول كإمداد لخيوط (السدى) في نسج الأفرشة والأغطية والمنسوجات الخشنة المدكوكة للباس وغيره.
وتوضح أن (الطعمة) تغزل لنسج الأقمشة الشفافة الصيفية بالمغزل الصغيرة التي تدورها المرأة على ركبتها وترفعها بيدها اليسرى إلى أعلى بينما باليمنى تفتل خيط (الطعمة) فتلا دقيقا والمغزلة المثبت على قمة هامتها صنارة دوارة، تنتج (السدى) وهي تلك الخيوط الرفيعة الناعمة المتينة التي تمثل خيوط الطول في المنسج ويسميها النساجات (الواقف) تمييزا لها عن (الطايح). و(الطايح) هو إما (خيوط السدى) نفسها في المنسوجات الجيدة جيدا والمرتفعة السعر (السْدى فسْدى) كالجلابيب والبرانس الشفافة، أو هو (مفتول الطعمة) التي تخترق (السدى الواقف) في المنسج الذي يصنع الملاحف والأغطية (البطانيات) والألبسة الشتوية.
وتضيف السيدة فاطمة أنه قبل نصب المنسج تنتقل النساجات إلى مرحلة (التتريس) حيث يغسلن غسلا خفيفا غزلهن الذي قد يكون تشرب قليلا من عرق أيديهن أو أصابه من غبار أو وسخ شيء عكر صفاء نصاعة صوفه، ولا يترك بعدئذ الغزل حتى يجف، فبين نشاف وندى (التشحليف) تضع النسوة الصوف المغزولة فوق سلة قصب كبيرة كالهرم مقلوبة على فوهتها وفي بطنها مفحم نار يصعد منه دخان الكبريت المحترق يتشرب من »بخوره »الغزْل المحاصر تحت غطاء لا يرشح ولا ينفذ منه الهواء.
بين فكي المنسج وأنياب العضادات…لا فكاك للغزل من أسنان المشط
وإذا صارت الصوف المغزولة بيضاء ميالة إلى الصفرة مثل الشحم، أقامت النساجات المنسج الذي يمتد على طول ثلاثة متر ونيف وعرض يقارب المترين، ويتكون المنسج من عارضتين لهما عيون ينفذ منها خيوط (السدى) وحبال تشد هذه الخيوط إلى العارضتين، وركيزتين عبارة عن عمودين تمسك بهما العارضتان التي تنسدل إحداها إلى أسفل فيما تظل شقيقتها معلقة حتى تفرغ الخيوط الملفوفة عليها عند انتهاء عملية النسج، وذلك إضافة إلى أربع قصبات عرضها عرض المنسج أو تزيد قليلا، و(النيارة) التي هي خيوط صوفية مفتولة سميكة تحكم (السدى) إلى القصب الذي يمر من بين خيوط المنسج المنسدل من العارضة العليا إلى العارضة السفلى مزدوجا كزخات الماء المنحدر من شلال مرتفع (الواقف) وذلك لفتح فوهة المنسج المشدود كالوتر بواسطة (العضادات) حتى يلتهم نسيجه مثل فكين في حركة خفض ورفع عندما تتسلل يد النساجة للقصبة تمسك بها أو تطلقها.
ويعتبر نصب المنسج أشق مرحلة في صناعة أقمشة الصوف في اللباس المغربي التقليدي الذي يزدهي به الرجال والنساء في المناسبات والحفلات والأعياد، لأنه يتطلب عددا لا يقل عن ثلاث نسوة، تكون اثنتان كل واحدة مسؤولة عن عارضة، والثالثة (جراية) تسعى بين الاثنتين على مسافة ثلاثة أمتار ذهابا ورواحا تمد خيوط (السدى) التي تجمع إلى وتد ب(النيارة) سرعانما تتخلص منه عندما تنتهي (الجراية) بين الطرفين من تصريف (الكبة) وهي كرة الخيوط المغزولة (السدى) التي قد تصل إلى حوالي 600 متر.
تنسج ربات البيوت النساجات خيوط الصوف الحريرية بواسطة مشط كلما دق في المنسج أصدر نقرات من خلال أصوات الحلقات المتدلية من أطرافه، كأنها صفائح حوافر الخيل تقبل الإسفلت في مسير عربة سلطان متوج حديثا بالعرش.
منسوجات صوفية غاية في الأناقة والنصاعة كطوية المؤمنين
ولا يغني الزوجات المغربيات عن تعب وشقاء نسج الصوف، سوى منظر أزواجهن أو أبنائهن وبناتهن يختالون في نخوة الأناقة الأصيلة ويتبخترون بإبداع الأنامل الحريرية، متقين شر البرد وشر حاسد إذا حسد، ومتلطفين ناعمين في مخمل الجلباب أو البرنس الشفاف الناصع كطوية المؤمنين ومثل براءة الأطفال.
وبلغ اعتناء النساجات المغربية اللواتي أخذ عددهن يتقلص بأناقة المنسوجات الصوفية من لباس وغيره، أن أصبحن يشكلن الألوان ويستعملن خيوط الحرير ويبالغن في التشكيل والإبداع دون تفريط في أصول فن العيش المغربي، غير أن المستقبل في الأسرة المغربية ينذر بسرقة الآلة لأناقة الرجال من أنامل النساء وأخوف الخوف أن يصير الجلباب والبرنس في دنيا العولمة من أحاديث الكان كان.