أحمد بوكماخ : ذاكرة أجيال …
2630 مشاهدة
إذا كانت شعبية الكثير من كتاب اليوم تُقاس بمدى نجاح أعمالهم الأدبية على مستوى التأليف والنشر والتوزيع و الإقبال ، فإن الكاتب أحمد بوكماخ لابد أن يعتلي القمة منفردا، ويأتي بعده بمستويات عديدة ما شاء الله من الكتاب المعروفين الذين تتحول كتاباتهم إلى أعمال تربوية ونصوص ناجعة يعتمد عليها كمادة أساس في المناهج والمراجع التربوية.
والحقيقة أن قصة الرجل لا تنحصر في شخص واحد أو كيان منفرد أو جماعة مختصة، بل هي قصة لعدة أجيال نالت ونهلت من فصول هذه القصة بكاملها منذ ستينيات القرن الماضي إلى اليوم، رغم تفيُّؤ بعض نصوصها حسب الفئات العمرية والمستويات الدراسية. كما أنها كتبت لها الدوام والاستمرارية رغم حجْبها عن العملية التربوية في السنوات الأخيرة، إلا أنها لازالت تحمل معها ومع كل مستوى طودا عظيما من الذكريات الجميلة والحسرة على ما فات منها بأفراحه وأحزانه وبنجاحاته وإخفاقاته .
زُرت مُؤخرا إحدى المكتبات أبحت عن ضالتي منها هناك، وأنا أبحت عبر الرفوف شدني أحدها للرجل نفسه : أحمد بوكماخ ، وهو كتاب القراءة المستوى السادس ابتدائي، أخدته بين يداي بعدما اهتزت مشاعري كلها له، أُلمْلمه بين يداي وكأنني ألملم حفنة ذهب أخاف شتاتها في الأرض أو ضياعها في مهب الريح ، بدأت أتصفح عناوينه وصوره التي ترافق نصوصه، وكان لكل عنوان ذكرى خاصة به.
لوذكرنا عناوين بعض نصوصه التي تحولت إلى ذكرى فيما بعد ، لأدركنا للوهلة الأولى كيف كان صاحبنا كاتبا ومصورا وكاريكاتوريا في كل مستوى من المستويات الدراسية، وأنه يكتب نصوصا وعيناه مركزتان على الصورة التربوية التي تناسب كل الفئات العمرية حسب السّن ، لذا فالمتمدرس لا يجد عناء في صنع الصورة في مخيلته، وعندما يقرأ النص بأكمله المأخوذ من الفصل السنوي – خريف ، شتاء ،ربيع ، صيف – الذي يعيشه يكتشف إلى أي حد كان خياله واسعا وخصبا موازاة مع التصور التربوي العام الذي يريده أحمد بوكماخ ولم يحبس نفسه في إطار واحد، وهنا يتجلى مدى نجاح العملية الكتابية عند الكاتب التي قل نظيرها وشُح تقنيات كتابتها.
من الواضح أن أحمد بوكماخ قد لمس وترا – لم يحركه أحد قبله – لدى المتمدرس الذي يحن إلى المجال القروي وهويتخيل القرية بكل مكوناتها وجزئياتها ، ويتوق إلى المدرسة الفاضلة بكل ترفها ويطمح إلى محو الجهل والأمية ويسعى لنشر العلم من أجل بناء إنسان معاصر وهو المشروع الأهم للمؤسسات التربوية بصفة عامة ، خصوصا والبلد حديث العهد بالاستقلال . لا ينبغي فيها العودة إلى الوراء ، مع التشبُّث بالقيم والمبادئ الإسلامية والوطنية مُستوحاة أو مُقتبسة من قصص بسيطة و سهلة ذات معاني متعددة . وبدلا من أن يكون أداة يتحرك بوحدة (الأنا) فإنه يكتسب ويكتُب ببعض الصفات الإنسانية الأدبية، فيكون له موقف في الحياة أيضا، وعليه فهو ليّنٌ و كيّسٌ من أجل دور الجماعة في المجتمع.
نحن إذن أمام ظاهرة أدبية إبداعية خلاّقة ذات طعم خاص ، فقد حاول أحمد بوكماخ أن يصنع لنفسه خطّا إبداعيا تربويا مُتكاملا وسط العديد من الإبداعات المتشابهة آنذاك، رغم عشرات المُسميات لأنواع الكتابة التربوية ولم يستطع أحد مُجاراته أو مُقارعته في ذات الميدان ، لأن الرجل له قدرة على امتلاك تقنية ينجح في تطويرها يضيف إليها ويجددهاعند كل مستوى دراسي تلو الآخر . رجل يعرف جيدا مفردات وأساليب الكتابة للحظة التاريخية التي يعيشها والأجيال صاحبة الخطاب التربوي المنشود والمستهدف ، وهذا ليس بغريب على شخص من طينته ، فقد نشأ يُراود الكتب والمجلات ، نهل منها صاحبنا حتى التحق بمدرسة الجامع الكبير بطنجة قبل أن يصير معلما بها ، وتأثر بأبيه الذي عان من سجن سلطات الحماية بسبب انتمائه للحركة الوطنية . هكذا حمل أحمد بوكماخ هموما إنسانية وسياسية وطنية وثقافية واجتماعية مكنته من صقل شخصيته وموهبته حفزته لتأليف سلسلة « إقرأ » من خمسة أجزاء سنة 1963 وسلسلة « الفصحى » بأجزائها الخمسة أيضا و »القراءة و الأعمال الموجهة لأقسام الملاحظة » سنة 1963 و »القراءة للجميع لمحو الأمية » سنة 1983 و »الرياضيات الحديثة » سنة 1975 ،إضافة لعدة مسرحيات منها » نور من السماء » و « رسالة فاس » و » فريدة بنت الحداد » وقد عُرضت جلها بمسرح سيرفانتيس بطنجة .
جدير بالذكر أنه رغم التوقف عن التدريس بسلسلة إقرأ في السلك الابتدائي ، فإن قيمتها لازالت كبيرة عند المغاربة ممّا جعلهم يتردّدون على اقتناءها لاستشراف ذاك الحنين للماضي و تذكر أيام الصبا والقصص التي يتذكرونها ويتذكرون معها مُعلّميهم و أصدقائهم وطفولتهم الجميلة رغم كبر سنهم ، والإقبال على هذه السلسلة لازال ليومنا هذا تتجدّد فيها الطبعات من حين لأخر، ونتذكّرمعها العناوين : » سعاد في المكتبة » و »جاء المطر » و »احمد والعفريت » و »الشر بالشر » و »أكلة البطاطس » و « سروال علي »و » بائعة الكبريت « و »حكاية أنف » و » الفلاح والعفريت » و » أم الفيل والأسد » و » فكرة السيد عباس الجديدة « ….
ونحن ننتظر فكرة جديدة تنقذ ما يمكن إنقاذه لبعت روح جديدة في منظومتنا التعليمية، على غرار ما أرساه أحمد بوكماخ الذي أسلم الروح إلى خالقها سنة 1993 بإحدى مستشفيات باريس.