مداخلة د. محمد البندوري حول المقصديات الفنية المرتبطة بالمجال النفسي ( الجزء الأول)
1873 مشاهدة
د. محمد البندوري في الندوة العلمية الفنية حول العلاج بالفن التي نظمتها جمعية فنون النخيل للثقافة والتضامن بشراكة مع مديرية وزارة الثقافة والاتصال قطاع الثقافة بمراكش والمركز الوطني محمد السادس للمعاقين وجمعية Open Hands
الجزء الأول
مهد الدكتور محمد البندوري في مداخلته للتعريف بماهية الفن، باعتباره جملة من الوسائل التي يستعملها الإِنسان لإِثارة المشاعر والعواطف وبخاصة عاطفة الجمال، كالتصوير والموسيقى والشعر، وقدم نماذج معجمية للمصطلح كمعجم الفلسفة لتخصيص الصنعة والتعبير الخارجي عما يحدث في النفس من بواعث وتأثرات بواسطة الخطوط أو الألوان. وقال بأن كلمة الفن إنما هي مجمل الوسائل التي يقوم الإنسان بواسطتها بإنجاز عمل يعبر عن مشاعره وأفكاره. والفن هو الشيء السرّي المبهم الغامض، هو الحسّ الدّاخلي من الشخص بحيث أنّ لا أحد يستطيع أن يراه. وما يهمنا من هذه التعاريف هو ذاك الارتباط بالمشاعر وبالحس الداخلي وبالتأثرات والتأثيرات التي تحدث عن الألوان أو الأشكال أو الخطوط وغيرها..
ثم عرج إلى أهمية الفن في النسيج الاجتماعي والثقافي والنفسي: فطرق دور الفن في المجتمع وفعاليته بمختلف المؤثرات الإيجابية، لأنه يحتل مكانة كبيرة ومهمة بالنسبة للفرد والمجتمع، كما أنه يستطيع التأثير بشكل مباشر في الأفراد والجماعات، فهو يشكل أداة للتفاهم، وقنطرة للتواصل، علما أن مجمل الابتكارات التي صنعها الإنسان كانت بواسطة الفن ومن وحي الفنانين. فمن خلال الفنون تقاس حضارة الأمم. وأورد مثالا للعمل الفني لأحد الفنانين الانجليز الذي تمت صناعة الأنفاق من خلال لوحته المتكررة الأبعاد الدائرية. وفي استعراضه لهذه الأهمية اعتبره وسيلة هامة لتربية المشاعر وتهذيب الذوق وتصنيع الجمال. وللفن دور في الأنشطة الاجتماعية، فهو يستهدف المجتمع بكافة أفراده على اختلاف خلفياتهم الثقافية، مما يجعل من مختلف الأنشطة الفنية بعدا اجتماعيا لما تخلفه من تقاسم علائقي ووجداني فضلا عن الدور السوقي الذي يعزز القدرة الاقتصادية ما يسهم في تحسين الحالة النفسية؛ ومن تم فقد أصبح للفن دور علاجي يخفف من آلام بعض الأمراض. ثم تطرق محمد البندوري إلى المظاهر المؤثرات التشكيلية في المحيط الثقافي وفي نفسية الإنسان، وقال بأن الفن يرتبط دائما بالظروف الاجتماعية والثقافية ويتطور بشكل سريع، ولكن الملفت أنه يتأكد حينا بعد حين أن للفن قوة جاذبة وقوة مؤثرة في الأفراد والجماعات بما ينتجه من الأشكال الفنية وقال فهي لا تنشأ عن وعي فردي فقط وإنما تنشأ كذلك عن غير وعي، لأنها تشكل تعبيرا إراديا وغير إرادي، وهكذا يكون الفن ذا قوة مؤثرة تتخطى التأثير السطحي إلى التأثير في أعماق النفس البشرية، ولذلك ظل الفن حلقة وصل بينه وبين نفسيات الناس عموما، ليضحى بنية فنية بمقصديات تعبيرية، وركيزة كبرى في التأثير الثقافي والفكري. ويتضح ذلك في إمكانية تجسيد الفن لأفكار ولنفسيات الأشخاص مرتبطة بالحياة الواقعية وبالحاجات العملية وبالمحيط، وتتمظهر في شكل صور إما فنية من شأنها التأثير على انفعالاته وأحاسيسه ونفسيته، وإما خربشات أو تجريد ينطق بالعديد من المكنونات الداخلية. فالأعمال الفنية ذات هذا التوجه كانت دائما تعبر عن مواقف معينة وعن هواجس وانفعالات داخلية، فالفن ذاته هو مرآة للنفس البشرية وللثقافة المجتمعية وأحد ركائزها. ثم ميز محمد البندوري بين أمرين: الأول التأثر بالفن والثاني ممارسة الفن، وشرح الجانب الأول: بأن عملية التأثر تنتج عن الرؤية البصرية أو عن السمع حينما يتعلق الأمر بالفنون البصرية كالرسم والنحت وووو فإن العين تستخلص اللون أو الشكل لينفذ إلى الإحساس تم تحدث عملية التأثير التي تسهم في استرجاع بعض الترسبات الداخلية، إذ أن العمل الفني يمكن أن يدخل البهجة أو الفرحة أو يمكن أن يحدث صداما داخليا تتفرغ على إثره الشحنات الداخلية أو يقطع الحبل المزعج داخل الذات الإنسانية. أما الذي يتعلق بالسمع فيخص الموسيقى أو القرآن وكل ما يسمع ويحدث تأثيرا في النفس.
والجانب الثاني يتعلق بممارسة الفن سواء عن طريق السمع والتفاعل معه من خلال الرقص مثلا، الذي أحيانا يدخل صاحبه في حالة هيستيرية أو فقدان الوعي أو شيء من هذا القبيل.
وأضاف البندوري أنه عن طريق الممارسة التشكيلية، يستطيع الفرد المصاب أن يفرغ شحناته الداخلية من خلال التفاعل مع الألوان وكيفية وضعها والأسلوب الذي يقدمه في رسم الأشياء كيفما كانت. هنا لا نتكلم عن رسم واقعي أو تجريدي أووو هنا نطرق مجالا ابداعيا حرا ، حرا في التصرف وفي الكيفية وفي الوضع. هناك في الفن التشكيلي ما يطلق عليه بالضربات اللونية ( قصة بيكاسو واللوحة التي اشتراها الرجل الثري) الانفعال له دور رئيس في إفراغ الشحنات الداخلية وفي قلب السياق النفسي من وضعية سلبية إلى أخرى إيجابية. أي أن الفن التشكيلي يصبح علاجا في بعض الأحيان. وهنا أريد أن أركز على شيء مهم جدا. لا يجب أن نسلم بأن الفن التشكيلي هو العلاج بل إنه يسهم في العلاج حسب الحالات المرضية وحسب تقبل الشخص المريض ورغبته في التفاعل مع الفن. فالطبيب والأستاذ الطبيب هو الذي يعرف أكثر مدى قدرة المريض على التفاعل مع الفن وهل هو محتاج للفن أم لا . والحالات التي تتجاوب مع الفن هي الحالات التي تبدي رغبتها من أول وهلة وتتفاعل بشكل تلقائي، أي أنها تكون حالات مؤهلة داخليا لاستخلاص اللون عن طريق الرؤية البصرية أو ممارسته بشراهة. وهذه الحالات غالبا ما تشفى بالفن. لذلك اتجهوا في أمريكا إلى التركيز على عمليات صنع الفن « كمكون علاجي » في حد ذاته، أي « الفن كعلاج » أو يمكن ان يسهم « الفن في العلاج » وهو ما اصطلحوا عليه : (فن العلاج النفسي) ». فكان منهج العلاج النفسي بالفن. علما أنهم اهتدوا إلى أن هذا المنهج قد كان من أقدم اشكال فن العلاج النفسي. فهو يوظف عملية النقل بين الأخصائي والعميل الذي يقوم بالفن وذلك حتى لا يقتصر العلاج على الوسائل الكيميائية والسلوكية فقط. فلجأوا للعلاج بالفن وهو ما أثبت جدواه وفائدته وفعاليته في مساعدة الكثيرين على التخلص مما يعانونه من اضطرابات نفسية. ولكن ظل هذا بالموازاة مع العلاجات الأخرى التي لا يمكن إلغاؤها. فالفن مكون مساعد على الشفاء فقط.
وحسب الأطباء المتخصصين فقد أتى العلاج بالفن وهو جزء من العلاج بالعمل، بالتنوع في الألوان الذي أصبح سمة من هذا العصر، فالألوان تحقق التوازن في عمل الأعضاء التي اعتراها الخلل. وهناك ألوان تبعث البهجة في النفوس وتسر الناظر إليها، وكذلك العكس هناك ألوان تقود إلى إثارة مشاعر السأم والتبلد والاكتئاب. وكل هذا مدعاة للتفاعل الذي يخرج المريض من وضعية إلى أخرى.