فاس والكل في فاس… جاذبية اللون والرائحة
1907 مشاهدة
نستأذن الزميلة اعتماد سلام الصحفية بإذاعة البحر الأبيض المتوسط (ميدي 1) التي نشرت هذه التدوينة دون عنوان على جدارها في فيسبووك، في إعادة نشرها ضمن صفحة العدد من مراكش 7 تعميما للفائدة ولمشاركة قراء ومتتبعي موقعنا الإخباري لذة الاستمتاع بمضمون هذه المادة وجمالية صياغتها التي قدمت مدينة فاس مأسورة بالقرويين وباثني عشرة قرنا من الحضارة وهو التقديم الذي استوحينا منه العنوان
فاس والكل في فاس… جاذبية اللون والرائحة
العاشرة والنصف صباحا تكون فاس قد استعادت بنجاح نشاطها وحيويتها التي أذهبها الليل، المحلات التجارية فتحت أبوابها وبدأ أصحابها يستقبلون الزبائن والزوار والناس منتشرون عبر شوارع وساحات المدينة.
من بينها ساحة « الرصيف » التي تحول جزء كبير فيها إلى موقف عشوائي للسيارات. في أقصاها ممر ضيق يعبر قنطرة من قناطر « وادي الجواهر » ذلك الوادي الذي عانى الفاسيون روائحه الكريهة وإهماله لفترة طويلة كان يُعمد خلالها إلى تنقيته وتصفيته ورشه بمواد معطرة فقط عندما يزور أحد المسؤولين الكبار المنطقة قبل أن تتم إعادة هيكلته وترميمه في إطار برنامج رد الاعتبار لمدينة فاس.
قبل أن تعبر القنطرة المقوسة يبدو لك المنظر بعمارته وأسواره وألوانه وقنطرته كأنه مجتزأ من عروس الأندلس غرناطة، ويتأكد لك أن هذه المدينة تحرس تراثها وأصالتها الممتدة منذ اثني عشر قرنا. تتجه يمينا عبر ممر آخر تتناثر على جانبيه محلات بيع المصنوعات والتحف النحاسية والفضية التي تبهر الرائي بجمالها ولمعانها وتنوعها، ترافقك بدائع الصناع التقليديين إلى أن تصل مدرسة الصفارين أول المدارس التي تأسست في عهد المرينيين. كان معظم أصحاب الحوانيت يجلسون أمام أبوابها الخشبية الجميلة بعدما انتهوا من تنسيق البضاعة البراقة ووضعوا قطعا منها للعرض عند مداخل المحلات، بعضهم يشرب الشاي وأحدهم نادى بائعة « البريوات » وبدأ يفاوضها على أربعة دراهم ثمن الواحدة منها. من معظم الحوانيت ينبعث صوت القرآن الكريم ومن أحدها صوت أم كلثوم. كل ذلك يمتزج بأصوات المطارق التي تدق بشكل متناغم، بعضها بقوة وبعضها بلطف حسب غاية الصانع من قطعة النحاس التي تحولها يده إلى شكل بديع.
في ساحة الصفارين التي ملأتها قدور نحاسية ضخمة يواصل الحرفيون دق بعضها، ينتصب باب خزانة القرويين شامخا من خشب منقوش يُظهر مهارة الصانع التقليدي المغربي ويشهد على حرفيته. وراء الباب، باب آخر هو أيضا مصنوع من الخشب المنقوش ويُفتح على مختبر ترميم المخطوطات بأحدث الوسائل في الطابق السفلي ودرج يؤدي إلى الطابق العلوي، وباب آخر يؤدي إلى مكاتب الإدارة حيث مكتب المحافظ والمشرف العلمي على الخزانة، وفي أقصى اليمين توجد قاعة المطالعة الكبرى التي وجدت فيها عددا من الطلبة والباحثين وبالقرب منها درج آخر يؤدي إلى الغرفة التي تخزن فيها المخطوطات والوثائق والكتب النفيسة التي تضمها خزانة القرويين.
هل هي الخزانة الأقدم في العالم كما هو الأمر بالنسبة للمؤسسة الأم « جامعة القرويين »؟ كان أول سؤال طرحته على الأستاذ عبد الحميد العلمي المشرف العلمي على خزانة القرويين وأستاذ التعليم العالي في جامعتها، في جوابه أكد أن الخزانة تنتسب إلى الجامعة، ولما كانت مقصد طلبة العلم فإن المنطقة تحولت إلى حي جامعي ومركز علمي متكامل فيه الجامع و الجامعة والداخلية مكان السكن والخزانة، وقبل الوصول إلى هذه المرحلة العلمية المتقدمة وتزكيتهم من قبل العلماء كان الطلبة يسكنون في المدارس المنتشرة في المدينة ومنها مدرسة الشراطين والعطارين والصفارين و المدرسة البوعنانية، وهكذا فقد نشأت الخزانة مع نشأة الجامعة وتوافدِ الطلبة والباحثين والعلماء وانعقاد مجالس العلم والتوريق، ويقصد به أن العالم أو الفقيه يأخذ حديثا من كل ورقة ويقرأه ويشرحه للطلبة والناس المتحلقين حوله. بنت فاطمة الفهرية الجامع في عهد الأدارسة، وتطور في عهد الزناتيين حيث تضاعفت مساحته من 225 مترا مربعا إلى ما يزيد عن 2000 متر مربع، والآن وصلت مساحته إلى سبعة آلاف متر مربع وفاقت طاقته الاستيعابية 12 ألف مصل. وقد كانت الخزانة داخل جامع القرويين وتوسعت في عهد السعديين بعدما اشترى الأمراء السعديون بعض الدور من أجل هذه الغاية فأصبحت تضم القبة السعدية، وحسب المؤرخ المغربي علي الجزنائي، صاحب كتاب « جنى زهرة الآس في بناء مدينة فاس » فإن مجالس العلم بدأت مع العلماء الذين وضعوا قبلة القرويين. يؤكد الأستاذ عبد الحميد العلمي أن المتداول هو أن « أبو عنان المريني » هو من أسس خزانة القرويين في منتصف القرن الثامن الهجري لكنه يشير إلى أن النواة الأولى كانت قبل ذلك بكثير عندما بدأت الجامعة تعج بالعلماء منذ القرن الثالث أو الرابع الهجري وصارت لهم مجالس علمية قارة، من بينهم صاحب كتاب « الدلائل على أمهات المسائل » عبد الله بن محمد بن إبراهيم الأصيلي، وقاضي فاس أبوعبد الله محمد الهواري، وأبو عبد الله بن حرزهم. وكل ذلك يعني حسب الأستاذ عبد الحميد العلمي أنه كانت هناك حركة علمية كبيرة توجد في قلبها المؤلفات والكتب.
وبحديثنا عن أهم وأندر المخطوطات والكتب في خزانة القرويين، لابد من الإشارة أولا إلى وجود مخطوطات مفهرسة يحتفظ بها بعناية ويناهز عددها 4 آلاف مخطوط، بعضها لا توجد نسخة منه في العالم كله، منها « الأرجوزة الشعرية » لابن طفيل التي تتحدث عن جميع العلل والأمراض وطرق علاجها، و »كتاب العبر » لعبد الرحمان ابن خلدون وَضع عليه تعليقا أو « تحبيسا » بخط يده عندما أوقفه على طلبة القرويين وعلمائها، تنضاف إلى هذه النفائس نسخة من المصحف الشريف تعود إلى منتصف القرن الثاني الهجري كتبت على رق بخط كوفي غير منقوط ولا مشكول ونسخة من الإنجيل مترجم إلى العربية تعد من أصح ما نسخ منه.
كثير من المخطوطات عليها تحبيس من ملوك وسلاطين الدولة المغربية، منها نسخة من كتاب « المختصر الفقهي » لأبي مصعب الزهري حبسته عمة السلطان محمد الخامس. وبالإضافة إلى الملوك والأمراء، أغنى أيضا التجار والصناع والعلماء الخزانة وحبسوا عليها المخطوطات والكتب النادرة. وهي كتب تشمل جميع العلوم ولا تقتصر على ما هو شرعي، فتجد بالإضافة إلى كتب العلوم الشرعية والسنة النبوية، كتبا تتعلق بالصناعة والموسيقى والتاريخ والفلك والفلاحة والحيوان والعلوم الطبية والتجريبية، حتى أن كثيرا من العلماء الذين كانوا يدرسون في جامعة القرويين كانوا يخترعون العديد من المخترعات لتمكنهم من هذه العلوم.
تحتوي الخزانة على نفائس أخرى لم تتم فهرستها بعد، لكن بدأ العمل عليها وهي التي يطلق عليها « الخروم » أو المتلاشيات التي تم إهمالها ووضعها في قبو أسفل الخزانة لأن فيها عيبا ما أو منها نسخ كثيرة أو بها خلط في الأوراق، لكن اتضح لاحقا أن بعضا مما وضع في ذلك القبو يعد نفيسا ونادرا. أكثر من 12 ألف قطعة تزن حوالي طن يتم الاشتغال عليها منذ عام 2010 يؤكد المشرف العلمي على الخزانة، وقد وجدت اللجنة العلمية التي تعمل عليها كتبا تامة كاملة ونادرة الوجود منها « التقييد والتقسيم » لابن رشد الجد، وكتاب « تلخيص الطريقتين » لابن عربي المعافري وهو كتاب لا توجد منه نسخة أخرى في أي مكتبة عبر العالم.
كتب و مخطوطات القرويين تتم إعارتها من حين لآخر لمؤسسات متحفية دولية بحسب محافظ الخزانة الأستاذ عبد الفتاح بوكشوف، ومن بين هذه المؤسسات على سبيل المثال متحف اللوفر الذي استعار مجموعة من الكتب والمخطوطات عرضها طوال مدة ستة أشهر كان من بينها كتاب العبر لابن خلدون الذي صنف من قبل اليونيسكو كتراث عالمي. الأستاذ بوكشوف ذكر أيضا أن العلماء كانوا كلما انتهوا من مؤلفاتهم يحبسون نسخة منها على القرويين بحيث يضعون علمهم رهن إشارة الطلبة والباحثين ويحفظون في الوقت ذاته حقوق الملكية الفكرية عندما يسجل مكتوبهم ضمن سجلات القرويين.
يضاف إلى كل ما سبق، وثائق تعد بالآلاف عبارة عن مراسلات وحوالات وتحبيسات وظهائر عزيزية وعقود الزواج والطلاق وإعارة الكتب وصلت إلى خزانة القرويين في حقب زمنية مختلفة. ولحماية كنوز المكتبة كان هناك نظام أمني مشدد منذ البداية، ففي عهد السعديين على سبيل المثال تم وضع المخطوطات في القبة السعدية ووضعت عليها أربعة أقفال، كل قفل تم تسليمه لعدل أو قيم أو محافظ وهذا يعني أن باب المخطوطات لا يمكن فتحه إلا بحضور الأربعة مجتمعين. وقد حرص السلاطين المغاربة على حماية المخطوط حرصا كبيرا وهو ما توثقه بعض المخطوطات التي تشدد على أهمية حمايتها والعناية بها، ومن ذلك توجيهات خلال عهد الحسن الأول تنص على أنه إذا كان من أخذ مخطوطا ما، حيا فيطلب منه إعادته، وإذا ضاع منه فعليه ضمانه وإذا توفي تتم مطالبة ورثته، وإذا باعه فعليه ضمانه. وهذا الحرص ازداد وترسخ في وقتنا الحاضر حيث شهدت الخزانة التي أصبحت تابعة لوزارة الأوقاف بدل وزارة الثقافة في عهد الملك محمد السادس تطورا كبيرا وعرفت عمليتين كبيرتين لترميم البناية وتجهيزها بأحدث المعدات كما تمت رقمنة محتويات الخزانة لتساير العصر وتيسر مهام الباحثين.
خرجت مما انا بداخله في ساحة الصفارين أسلك الممر ذاته عبر القنطرة المقوسة على وقع ضربات المطارق، غير مصدقة أني رأيت ولمست كنوز ونفائس التراث المكتوب ومنها مصحف شريف من القرن الثاني الهجري. لازلت لا أصدق حتى الآن!