الدباغة لم تعد تغني ولا تستر..الإهمال والجائحة يدفعانها نحو الاندثار
1923 مشاهدة
لم تكن صدفة حين أطلق أهل مراكش منذ قرون خلت اسم « باب الدباغ » على أحد أبواب سور المدينة، فحرفة الدباغة كانت دائما من ملامح المدينة وهويتها، واستطاعت أن تصمد منذ مئات السنين في وجه تقلبات الزمن لتحافظ على طقوسها وتفاصيلها، ليبقى قدر الجلود التي تدخلها هو نفسه، حيث تحوله أنامل الصناع الذهبية بصبر وجلد من بقايا حيوانية ممجوجة إلى قطع ثمينة ذات بال وجمال، ولا زال حي « دار الدباغ » شرق المدينة العتيقة شاهدا على ذلك، حيث تلفحك رائحة قوية في رحابه تسبق قدميك وأنت متوجه نحو إحدى دور الدباغ به، كأنها تجهزك لما ستراه من أحوال قاسية بها، حيث تجد دارا خفت بريقها، وخف ضجيجها، إلا من أرجل دقيقة تتوزع بين « القصاري » وقد أصبحت الجلود تعاندها كما الزمن، ثم تلمح عينيك « معلمين » موزعين في الحواشي أمام الدكاكين ذاهلين في ما آلت إليه صناعتهم من كساد بعد أن دكتهم الجائحة دكا.
الإهمال والعشوائية والاحتكار..تدفع « دار الدباغ الذهب » نحو الهاوية
« دار الدباغ الذهب » هذا ما كان أهل الحرفة يطلقونه عليها في السابق، إلا أن عوامل متعددة جعلت هذا النعت أشبه بالخرافة، يقول رشيد وهو دباغ بدار الدباغ لعريصة » قيمة الصنعة تتجلى في ممارسة أكثر من حرفة هنا في السابق، مثل « الزيواني » و »البطانة البيضا » وجلود الجمال التي تصنع بها النعال وغيرها الكثير من الأنواع التي لم تعد تمارس هنا »، وأضاف بحسرة « لم يعد مستقبل هنا، الأمور تسير من سيء إلى أسوأ، والقطاع مهدد بالزوال ».
يقول رشيد « هذه الصنعة تحتاج إلى تدخل ودعم من طرف الدولة، لأن العشوائية تستنزفها، فما دام القطاع مفتوحا في وجه من هب ودب، وما دام « لمعلم » الذي يعمل ويخرج سلعته لا يتوفر على طابع خاص به لن يقف هذا القطاع على قدميه. الدول الأخرى سبقتنا بكثير وأصبحت هذه الصنعة تدرس، وتتوارث عبر الأجيال. المسؤولين وجدوا ما يريدون، لأنه لا يوجد من يتكلم عن وضعية هذه الصناعة التي لا يدافع عنها حتى أصحابها ! هناك فيدراليات وجمعيات لكن دون تكوين أو أثر ».
من جهته نبه عبد الكريم وهو دباغ أيضا في « دار الدباغ لعريصة » إلى قضية احتكار المواد التي تعتمد عليها صناعة الدباغة، حيث تعرف ارتفاعا صاروخيا بسبب الاحتكار وغياب المراقبة، وقال « هناك شركة تحتكر مادة « الدباغ » وطنيا، ثم تقوم بإرسالها إلى اثنين أو ثلاث هنا في مراكش يحتكرونها فيما بينهم، فتضاعف ثمنها من 150 درهم قبل 4 سنوات إلى 550 درهم الآن، وقد سبق واشتكينا الأمر للوزير لكن دون فائدة ».
ولفت عبد الكريم إلى آفة أخرى تحوم بدار الدباغ، التي تعتبر من المحطات السياحية المهمة بالمدينة، ويتعلق الأمر بممارسات لبعض أصحاب « البازارات » الذين يأتون بالسياح ويخبرونهم بأن ما يبيعونهم من منتوجات في محلاتهم آت من دار الدباغ مباشرة وأن فيه مساعدة للصناع التقليديين بدار الدباغ، وفي ذات الآن يكذبون علينا وينصبون على السياح.
ظروف عمل قاسية بدون ضمانات
باعتباره الحلقة الأضعف في دار الدباغ، تبقى وضعية « الصنايعي » هي الأكثر صعوبة، حيث يشتغل في ظروف قاسية ويتعامل بشكل يومي مع مواد لها تأثير مباشر على صحته في غياب وسائل الحماية والتي يبقى المتاح منها بدائيا، وفي غياب التغطية الصحية أو التقاعد أو التعويض عن حوادث العمل، ليبقى مصيره متروكا للمجهول.
يقول رشيد « الدباغة يعيشون مشاكل لا تحصى نسبة كبيرة من الصناع أصبحت تتجه إلى المخدرات، نعمل بدون إعانة أو تغطية صحية أو أي شيء..إذا أصيب أحدنا بالمرض لن يجد أحدا، نعرف صناعا شاخوا في العمر بعد عمل شاق امتد بهم لعقود من الزمن ولم يجدوا شيئا في آخر عمرهم، ويتأسف على واقع قلة الوعي والأمية اللذان يمنعان من الترافع عن مصالح الصناع والصنعة، في الوقت الذي « مول الشكارة يقضي مصالحه ويمضي ».
أحمد من جهته وصف الحال قائلا « الصانع يديه على قلبو، يعمل في صناعة شاقة جدا ولها آثار على الصحة، على الظهر والصدر المفاصل والعنين والجلد، وإذا مرض لن يجد من يعيله، يبقى مصيره المعاناة حتى يموت، لا يجد حتى ثمن الدواء..الصنعة لم تعد تغني ولا تستر.. 30 درهما في اليوم كيف ستعيل بها أبناءك في ظل متطلبات الحياة المتزايدة؟ ويتحسر « الصنايعية هما الأساس وهما المهمشين »، ويضيف « لهذا السبب لا يمكن أن تتطور هذه الصناعة، مع العلم أن هناك لوبيات تستفيد من هذه الصنعة والصناع التقليديون يعانون الأمرين ».
الجائحة ..كساد وركود دون دعم أو تتبع
كانت لجائحة كورونا التي تسبب بها الفيروس المستجد آثارا كارثية على صناعة الدباغة، حيث توقف القطاع تماما في فترة الحجر الصحي الصحي، وبقي يعيش ركودا إلى اليوم بعد الرفع التدريجي لإجراءات الغلق، ما تسبب في خسارة الكثيرين لرؤوس أموالهم في فتره الجائحة، وأجبر الصناع على التوجه نحو مهن أخرى لكسب قوتهم اليومي.
عبد الكريم كان ممن خسروا رأس المال في فترة الجائحة، وأصبح الآن يعمل بالأجرة عند « معلمين » آخرين بعد أن كان صاحب مال، ويضيف » الآن العمل نقص بنسبة 50 إلى 60 فالمائة، والكثير من الصناع الحرفيين المتمكنين قد غادروا الصناعة، وعدد منهم عاطلون عن العمل. ثمن الجلد نقص كثيرا بسبب الجائحة في أماكن البيع وأماكن الشراء على السواء، في المقابل المواد التي نعمل بها لا تزال باهظة الثمن بسبب الاحتكار ولم تشهد أي نقصان إلى اليوم بل بعضها ازداد ثمنه قبل أيام، هناك ركود وتراكم في الجلود بسبب عدم الإقبال، وبعض الجلود تبقى مكومة إلى أن يزرق لونها.. ».
السي محمد وهو « معلم دباغ » بـ »دار الدباغ لعريصة » يقول « العديد من الحرفيين اتجهوا نحو البناء ومنهم من يبيع البيض.. دار الدباغ « كانت عامرة ! » الآن قل الصناع وهناك معلمين ذهب رأسمالهم في الجائحة، من جهة أخرى هناك الركود فسوق الجلد كان مقفلا، وبعض الصناعات متوقفة إلى الآن، وحتى عندما نقاوم ونعمل على إخراج السلع يقابل جهدنا بثمن بخس لا يناسب الجهد المبذول، كل هذا في ظل غياب أي شكل من أشكال الدعم، في الصناعة التقليدية طيلة فترة الجائحة لم يلتفت إلينا أحد ».